كيف تواجه حكومة السوداني الخلافات مع تركيا؟
مثل تشكيل الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني مرحلة جديدة من مراحل العلاقة بين العراق وتركيا، التي شهدت منذ الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 حالة من حالات عدم الاستقرار السياسي والأمني، مما أثر في مجمل العلاقات بين البلدين، وسوف تجد حكومة السوداني نفسها مضطرة لمواجهة العديد من الملفات الشائكة مع تركيا، والتي فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 في حلها مع الجانب التركي. ويرجع هذا الفشل إلى حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تعاني منه الدولة العراقية بشكل مستمر وبدرجة أكبر بعد عام 2003، وكذلك إصرار الجانب التركي على عدم الوصول لحلول لتلك الملفات. ويحاول هذا التحليل الإجابة عن كيف تواجه حكومة السيد محمد شياع السوداني الخلافات مع تركيا؟
موقع العراق في الاستراتيجيات التركية:
هناك ثوابت في السياسة التركية تجاه العراق استمرت الحكومات التركية في التأكيد والحفاظ عليها منذ عام 2003، وخاصة فيما يتعلق منها بالأمن الجيوسياسي والأمن الاقتصادي للبلاد، وهي:
وحدة العراق (الأمن الجيوسياسي):
تعتبر الحكومة التركية أن الحفاظ على وحدة العراق ثابتاً من ثوابت الأمن القومي التركي، على اعتبار أن تقسيمه من الممكن أن يفتح باباً واسعاً أمام تقسيمات أخرى في المنطقة قد لا تثتسني تركيا نفسها، خاصة إذا امتد خط التقسيم إلى الأكراد في المنطقة، بالإضافة إلى مصير كركوك.
الاستقرار في العراق (الأمن الاقتصادي):
ترى تركيا أن استقرار العراق مكسب استراتيجي على الصعيد السياسي والاقتصادي، وعلى الاستثمار، وأمن الطاقة، وذلك نظراً لما يملكه الطرفان العراقي والتركي من مقومات تساعد على تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين، فالعراق بحاجة إلى عمل هائل في البنية التحتية بمليارات الدولارات، وتركيا تمتلك قطاع مقاولات ضخمًا يحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد الصين بالنسبة لقطاع الإنشاءات، بالإضافة إلى قطاع خاص حيوي يمكنه أن يسهم بشكل فعال بما يعود بالنفع على البلدين.
كيف ساهمت تركيا في تشكيل حكومة السوداني؟:
شاركت تركيا كغيرها من القوي الدولية والإقليمية المجاورة للعراق بما لها من نفوذ في الداخل العراقي متمثل في الدور الذي قامت به عبر الدفع بتحالف السيادة الذي يقوده رئيس مجلس النواب الحالي محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، إلى جانب علاقاتها الطيبة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتوافق مع الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وإنهاء حالة الانسداد السياسي الذي أعقب الانتخابات البرلمانية المبكرة، والتي أجريت في 10 أكتوبر2021، والذي استمر ما يزيد على العام، حيث حاولت تركيا من خلال تحركات سفيرها في بغداد علي رضا كوناي، وكذلك الزيارات المتكررة لرئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، الدخول على خط تشكيل الحكومة في العراق مدفوعة برغبة داخلية ومخاوف خارجية من أن تؤدي حالة الانسداد السياسي التي شهدها العراق إلى مزيد من الاستنزاف العسكري، سواء على مستوى حزب العمال الكردستاني (PKK) في سنجار، أو على مستوي العمليات العسكرية التركية على الحدود العراقية والسورية، حيث شهدت العديد من المواقع التي تتواجد بها القوات التركية العديد من الهجمات بالطائرات المسيرة وصواريخ الكاتيوشا، وجاء الهجوم التركي على مصيف برخ التابع لمحافظة دهوك في إقليم كردستان يوليو الماضي ليدخل العلاقات العراقية التركية في منعطف خطير حيث أدي الي تصاعد الغضب الشعبي العراقي من الدور الذي تقوم به تركيا في العراق مما أدى بالعراق إلى الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لإدانة القصف التركي، والمطالبة بتحميل تركيا مسئولية الخسائر التي تعرض لها العراق نتيجة القصف.
وانتشرت دعوات شعبية لمقاطعة البضائع والمنتجات التركية، وتعرضت القنصلية التركية في محافظة نينوى لهجمات صاروخية، بالإضافة إلى مقرات عسكرية تركية في زليكان، وبامراني، وغيرها.
وسبق ذلك قرار المحكمة الاتحادية في فبراير 2022 والذي قضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز في إقليم كردستان، والذي يتناول في جزء منه التعاملات الغازية بين أربيل وأنقرة، مما أدى إلى انخفاض حجم التبادل التجاري بين البلدين، بفعل الأزمة السياسية التي مرت بها العراق، مما تسبب في معاناة الداخل التركي من تصاعد الأزمة الاقتصادية واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار العقوبات علي إيران مما زاد من اعتماد تركيا علي العلاقات الاقتصادية والتجارية مع العراق.
دفعت تلك العوامل تركيا للمراهنة على تشكيل حكومة عراقية جديدة تتمتع بصلاحيات كاملة بصرف النظرعن طبيعة الإستحقاقات السياسية التي تفرزها الساحة العراقية سواء كانت وفق المحددات التركية أم لا فالرؤية السياسية التركية قائمة بالأساس علي أن النفوذ الذي تملكه إيران والولايات المتحدة الامريكية في العراق يمكن أن تجعلها خارج إطار دائرة التنافس الإقليمي في الوقت الذي تريد فيه تركيا البقاء ضمن لعبة التوازنات خاصة وأن التوازن في العراق هو جزء من توازن إقليمي في الشرق الأوسط .
وإجمالاً فقد وازنت تركيا في عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة بين حالة الصراع الأمريكي الإيراني في العراق وما يمكن أن يؤديه من تداعيات علي مستقبل النفوذ التركي في العراق، حيث تدرك تركيا أهمية وجود فاعل رسمي تتحاور معه علي العديد من الملفات والقضايا بصرف النظر عن موقفها من شخصية رئيس الوزراء، وعلى الرغم من ترحيبها بتشكيل حكومة السوداني إلا أنها ما زالت متخوفة من السياسات التي يمكن أن يتبعها في المرحلة المقبلة.
الخلافات التركية العراقية:
وظهرت علي طاولة الحكومة العراقية الجديدة العديد من القضايا الخلافية مع تركيا والتي فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 في حلها أهمها :
السياسيات الطائفية للحكومة العراقية: في عام 2010 مثل إياد علاوي بارقة أمل في استعادة العراق لبعض من لحمته الوطنية ودوره الإقليمي وقد أيدته عدة دول إقليمية منها تركيا ولكن صفقة إبرانية أمريكية حالت دون وصول السيد إياد علاوي الي رئاسة الحكومة العراقية وأتت بالسيد نوري المالكي حيث بدأت السياسات الطائفية تزداد في العراق بشكل ملحوظ واحتكر المالكي سلطات رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الداخلية والأمن الوطني وعدد من الأجهزة الأمنية مع تأثيره على القضاء ومع رحيل القوات الأمريكية من العراق بدأ المالكي سياسة تصفية طائفية للسياسيين السنة حيث أمر بإعتقال ومحاكمة السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية بتهمة تشكيل تنظيم إرهابي وكذلك مع نائبه صالح المطلك حيث طالب بإقالته من منصبه بعد حجب الثقة عنه وكذلك رافع العيساوي وزير المالية الذي طالب المالكي باعتقاله. وطالبت تركيا المالكي بضرورة الابتعاد عن الطائفية لتجنب المصير الأسوأ للعراق بالإضافة إلي استضافتها لطارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي مما انعكس بشكل سلبي علي العلاقات الثنائية بين البلدين وسط اتهامات متبادلة .
الموقف من سوريا: اندلعت الثورة السورية في مارس ،2011 أعلنت تركيا عن تأييدها للثورة ورفضها للعنف ضد المتظاهرين مع إتجاه الحكومة السورية الي الاعتماد بشكل كلي على إنشاء تجمع إقليمي، حيث بدا الهلال الشيعي واضحاً أكثر من أي وقت مضى، وبعد أن كان المالكي يتهم بشار بتصدير الأسد للإرهابين إلى العراق مهدداً برفع شكوى إلى الأمم المتحدة ضده أصبح المالكي بتأثيرات إيرانية يدافع عن الأسد، كما رأى في الموقف التركي من الأحداث في سوريا تهديداً لموقعه وسياساته التي يتماثل فيها مع سياسات الأسد.
العلاقة مع كردستان العراق: ساهمت العديد من المتغيرات التي مرت بها العلاقات العراقية التركية بتشكيل ملامح العلاقة بين أنقرة وأربيل وتحديداً منذ فرض منطقة حظر الطيران في شمال العراق عقب العزو العراقي للكويت عام 1990، وخروج الإقليم من سيطرة الدولة العراقية المركزية في بغداد خلال الفترة من 1991-2003. وكذلك قيام ما يعرف بإقليم كردستان، حيث حاولت تركيا تأسيس علاقتها مع أربيل بمعزل عن الحكومة المركزية في بغداد، مما أدى إلى إضعاف قدرة الحكومة العراقية المركزية في بغداد عن بلورة سياسة خارجية واحدة تجاه تركيا.
وأدت السياسة الطائفية لرئيس الحكومة العراقية السيد نورري المالكي إلى انعكاسات سلبية خطيرة داخل العراق ومحيطه الإقليمي، وكذلك شركائه السياسيين إذ دفعت تلك السياسة حكومة إقليم شمال العراق الي سياسات أكثر إستقلالية عن حكومة بغداد وأجبرها موقعها الجغرافي على زيادة الانفتاح على تركيا بشكل كبير لكونها الشريان الرئيسي والحيوي للإقليم والمنفذ الوحيد له إلى العالم الخارجي، وكانت تلك الخطوة فرصة لتركيا لتطبيع العلاقات مع الأكراد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ولكن نوري المالكي رأي في تعاون الأكراد وتركيا خطراً كبيراً علي موقع ونفوذ حكومته المركزية.
وفي هذا سوف تجد حكومة السيد محمد شياع السوداني نفسها أمام تحد في كيفية الموائمة بين المتطلبات الوطنية للعراق وبين رغبات إقليم كردستان بالبعد عن مركزية الحكومة العراقية في بغداد، حيث أدى عدم تمكن الحكومة العراقية من السيطرة على المنافذ الحدودية مع تركيا الى جانب استحواذ الإقليم على التعاملات التجارية والاقتصادية مع تركيا إلى إضعاف الموقف السياسي لبغداد.
وجود حزب العمال الكردستاني: شكلت عملية تمركز حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وتحديداً في سنجار أحد أهم المعضلات الأمنية في مسار العلاقات العراقية التركية قبل عام 2003، وعلى الرغم من توقيع الجانبين على العديد من الاتفاقات لوضع حد للهجمات العسكرية لحزب العمال، إلا أن العراق لم ينجح في ذلك نتيجة الدور الإيراني الذي يقدم الدعم اللوجستي والأستخبارتي للحزب.
الوجود العسكري التركي: شكل افتتاح قاعدة “زليكان” التركية عام 2014 في أطراف جبال ناحية بعشيقة شمال شرق محافظة نينوي أول وجود عسكري تركي صريح في شمال العراق، مع وجود نقط عسكرية تركية داخل الأراضي العراقية منذ تسعينات القرن الماضي، ومع التذرع التركي بأن الهدف الوحيد من الانتشار العسكري التركي هو ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، إلا إنها ساعية لتحقيق أهداف أخري تتجاوز ذلك سواء تأسيس وجود عسكري تركي دائم في محيط سنجار، أم على مستوى ربط الحدود العراقية السورية بمنطقة أمنه لتحقيقها في شمال العراق وسوريا.
العمليات العسكرية التركية: شكلت حالة الفراغ الجيوستراتيجي الذي تعاني منه دول المنطقة فرصة للعديد من القوى الإقليمية لإعادة هيكلة التوازنات الاستراتيجية بشكل يتوافق والطموحات السياسية لكل منها، ولا تستثني تركيا من ذلك، حيث تنظر تركيا إلى الشريط الحدودي الرابط بينها وبين العراق وسوريا (مناطق تمركز الأكراد ) من أبرز مهددات الأمن القومي التركي، ومن ثم لابد من خلق حالة جغرافية جديدة تخدم الدور الإقليمي التركي وشكل حزب العمال الكردستاني وإقليم إيران أحد أهم التحديات التي تواجه تركيا لتحقيق طموحها الإقليمي، ولذا نجد استمرار العمليات العسكرية التركية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني وحلفائهم في شمال العراق وسوريا.
وتطمح تركيا إلى إنشاء منطقة أمنة بعمق 50 كم في سنجار داخل الأراضي العراقية، والتي تبدأ من منطقة هفتانين الحدودية، وحتى معسكر بعشيقة في سهل نينوى الذي تتواجد به القوات التركية، وكان آخر تلك العمليات عملية قفل المخلب في منتصف العام الحالي.
وقد قامت حكومة السوداني مؤخراً بزيادة عدد القوات العراقية المتمركزة على الحدود التركية، ولا يشكل ذلك حلاً فاعلاً لإيقاف العمليات العسكرية التركية داخل العراقية، حيث قامت تركيا في مطلع شهر ديسمبر الجاري بفتح ممر بري بعمق 30 كم داخل الأراضي العراقية، يبدأ من الحدود التركية. كما طورت تركيا أساليب مواجهة حزب العمال الكردستاني في الداخل العراقي مثل العمليات الجوية التي تنفذها الطائرات التركية المسيرة، وهو ما يتطلب من حكومة السيد السوداني ليس تأمين الحدود فقط، ولكن القدرة على تأمين المجال الجوي عبر تقوية منظومة الإنذار المبكر والدفاع الجوي.
ملف المياه:
مثل موضوع المياة أكثر الملفات خلافاً بين العراق وتركيا في الفترات الحالية، وزاد من حدته السلوك التركي بعد عام 2003، إذ أقامت تركيا العديد من السدود المائية علي نهري دجلة والفرات، وكان أخرها سد أليسو عام 2018 مما أثر بشكل سلبي على حصة العراق المائية، ووفقاً لآخر التقديرات هذا العام عن كمية المياه الواردة من نهري دجلة والفرات يقارب الـ 13 مليار متر مكعب، وهي أقل من الاحتياجات العراقية بما يقدر 50 مليار متر مكعب، مما أدى إلى تقليص المساحات المزروعة في العراق إلى ما يقارب %75 من الأراضي. وزاد من حدة تلك المشكلة إصرار الجانب التركي علي عدم حل هذا الملف وعدم امتلاك العراق أية أوراق ضغط تجبر الجانب التركي علي الوصول لاتفاقية تنظم الحقوق المائية للطرفين.
وختاماً، إن مراجعة السياسات التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 200 تجاه تركيا تبين انها كانت سياسات مرحلية تعتمد على البرامج الحزبية لكل حكومة، ولم تكن علي أساس خطط استراتيجية بعيدة المدى كما الإجراءات التي اتخذتها حكومة نوري المالكي الأولي والثانية، وحكومة حيدر العبادي، وحكومة عادل عبد المهدي، وحكومة مصطفي الكاظمي، حيث الضعف الحكومي بسبب الطبيعة الائتلافية لتلك الحكومات، وكذلك الإشكاليات مع إقليم كردستان، وغياب الجهود الاستخباراتية والأمنية العراقية على الحدود التركية؛ أدى إلى ممارسة تركيا لمزيد من الضغوط على العراق لمعالجة تلك الملفات دون مراعاة مبدأ السيادة العراقية.
وبالنظر إلى طبيعة البرنامج الوزاري لحكومة السوداني نجد أنها لا تختلف عن سابقتها، حيث أنها حكومة ائتلافية، كما أن الاهتمام والتركيز الأكبر على الملفات الداخلية، ولن تشهد العلاقات العراقية التركية تغيراً كبيرًا خصوصاً أن الجزء الأكبر من هذة العلاقات يرتبط بإقليم كردستان الذي طور العلاقات مع تركيا في الفترة الأخيرة بعيداً عن بغداد، وتحديداً في ملف تصدير الغاز، وفتح المجال أمام الشركات التركية للتنقيب عن الغاز في الإقليم.