ديمقراطية القرن الحادى والعشرين
د. على الدين هلال
سوف يتوقف الباحثون طويلا أمام دلالة اقتحام مقر الكونجرس الأمريكى يوم 6 يناير 2021لوقف التصديق على نتائج انتخابات الرئاسة. وما يفصح عنه من انقسامات عميقة فى الجسد السياسى والاجتماعى الأمريكي، وما يشير اليه من تحديات تواجه مؤسسات الديمقراطية.
ورغم أن هذا الهجوم تم دحره فى ساعات قليلة وأكمل أعضاء الكونجرس مهمتهم وتم تنصيب الرئيس الجديد يوم الأربعاء الماضى وسط إجراءات أمنية مشددة، فإن ما حدث جاء فى وقت تزايد فيه الحديث عن أزمة الديمقراطية الغربية، والتراجع الديمقراطى فى العالم. وأنه إذا كانت تسعينيات القرن الماضى قد شهدت الموجة الثالثة لانتشار الديمقراطية فإن العقد الثانى من هذا القرن شهد تراجع هذه الموجة وانحسارها وعودة كثير من النظم الديمقراطية الجديدة أو الناشئة إلى أشكال مختلفة من السلطوية والنظم غير الديمقراطية.
وهذا هو الرأى الذى تأخذ به التقارير السنوية عن حالة الديمقراطية فى العالم كتقرير بيت الحرية وتقرير مجلة الايكونوميست و المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات.ودعم من هذا الرأى تصاعد الحركات والتيارات الشعبوية فى دول الديمقراطيات الراسخة ك أمريكا وعدد من الدول الأوروبية.
وظهرت عشرات الكتب التى ناقشت الأزمة فى نظم الديمقراطية الراسخة، او فى الدول حديثة التحول اليها. وتنوعت الاتجاهات التى تبنتها ما بين الحديث عن موت الديمقراطية، ونهاية الديمقراطية أو التبشير بأشكال جديدة كالديمقراطية التشاورية، والتشاركية، والالكترونية.
وفى هذا السياق، يأتى كتاب د. وحيد عبد المجيد بعنوان ديمقراطية القرن الحادى والعشرين ليمثل اسهاما جادا فى الحوار حول هذا الموضوع المهم، وإضافة علمية رصينة تقوم على اطلاع ومعرفة بالأدبيات الرئيسية فى الموضوع، وعلى نظرة تحليلية ونقدية لبعض المقولات الذائعة.
يركز الكتاب على نظم الديمقراطية التمثيلية فى الدول المتقدمة، والتى تعرف أحيانا باسم الديمقراطية الغربية أو الديمقراطية النيابية أى على النظم الديمقراطية الراسخة، ويعترف مؤلفه بوجود أزمة عميقة فى هذه النظم. ولكنه يعتبر أنها أزمة أداء للمؤسسات التمثيلية وليست أزمة للفكرة الديمقراطية فى حد ذاتها. فهى أزمة تطور لا تؤدى بالضرورة إلى انحسار الديمقراطية، بل يمكن أن تقود إلى توسيع فرص المشاركة الشعبية.
ويُرجع المؤلف أسباب هذه الأزمة إلى أن المؤسسات المنتخبة لم تعد تمثل الناخبين، وانفصال مصالح النخب السياسية الحاكمة عن مصالح أغلبية المواطنين، وازدياد التفاوت الاجتماعى والطبقي، وعدم قدرة مؤسسات النظام على استيعاب القادمين الجدد من الشباب. وكان من شأن كل ذلك, بتعبيرالمؤلف, انزلاق الدول الديمقراطية باتجاه نوع من حُكم القلة.
ويطرح المؤلف وجهة نظر جديدة بشأن صعود التيارات الشعبوية فى أمريكا و أوروبا ، فلا يعتبرها خطرا على النظام الديمقراطى أو تهديدا له، لأنها تعمل وفقا للقواعد والقيم التى تأسس عليها هذا النظام، ولم يصدرعن قادتها ما يثبت عكس ذلك. وحذر من الخلط بين هذه الموجة من الشعبوية، وسابقتها من الأحزاب والحركات الشعبوية فى النصف الأول من القرن العشرين فى إيطاليا وألمانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية والتى أدت إلى تقويض النظام الديمقراطي.واعتبر أن ظهور هذه الحركات هى رد فعل لفشل مؤسسات الديمقراطية التمثيلية فى التعبير عن رغبات عموم الناس ومطالبهم، واتساع دائرة عدم ثقتهم فيها. ومن ثم، فإن هذه الموجة فى واقع الأمر تمثل حركة تصحيحية. وفى اعتقادي، أن هذا الاجتهاد لا يمكن رفضه أو انكاره كلية، فهو يستند إلى أدلة وأسانيد حرص المؤلف على إيرادها، وإنما ينبغى مناقشة حدود هذا الاجتهاد. فلا يمكن إغفال دور الخطاب الشعبوى فى إثارة عواطف البسطاء والتلاعب بأفكارهم وتحريكهم للقيام بأفعال ضد القانون.
والمثال الأوضح هنا هو دور ترامب فى اقناع قطاع من الأمريكيين بان الانتخابات شهدت مخالفات جسيمة أدت الى تغيير نتائجها، ودعوتهم إلى استعادة الحقوق وإظهار القوة، الأمر الذى أدى إلى كارثة 6 يناير.
ويرى المؤلف أن حل الأزمة الراهنة لا يكون بالتخلى عن نظام الديمقراطية التمثيلية، فالتمثيل فى العصر الحديث هو جوهر مفهوم الديمقراطية، ولكن بإدخال عناصر من الديمقراطية المباشرة فيه، وزيادة مشاركة المواطنين فى إدارة شئون بلادهم مما يجعل المؤسسات التمثيلية تعمل تحت رقابة الشعب. ومن ذلك إجراء استفتاءات عامة أو محلية بشأن قضايا محددة أو قرارات تنفيذية بعينها وهو ما يحدث فى سويسرا، ومنها الاقتراع على أداء أعضاء البرلمان والمسئولين الحكوميين وفقا لضوابط معينة وفتح مجالات جديدة للحوار السياسى والاجتماعى على المستوى الشعبي.
ركز المؤلف على وضع الديمقراطية فى الدول التى حققت تقدما كبيرا فى مضمارها، فماذا عن الدول التى انتقلت حديثا الى الديمقراطية، والتى لم تترسخ فيها بعد قيمها كقبول التعددية، والمساواة فى الحقوق والواجبات، واحترام الآراء المخالفة، وحكم القانون الذى لا يميز بين مواطن وآخر لأى سبب، وفيها لم يتعود الحكام والمحكومون على اتباع قواعد السلوك الديمقراطى والعمل وفقا للإجراءات الديمقراطية. وأتمنى على المؤلف أن يخصص فصلا عن هذا الموضوع فى الطبعة الثانية من كتابه. وفى النهاية، فإن هذا الكتاب هو جهد فكرى متميز تحلى بروح التفاؤل بمستقبل الديمقراطية فى العالم، وحشد الأدلة على ذلك من واقع الممارسات الفعلية، وهو عمل يستحق المناقشة والاتفاق والاختلاف معه، فهذا هو الطريق الوحيد للاقتراب من الحقيقة.