رؤية تحليلية.. كيف تتعامل الحكومة مع المبادرات بعد قرار المركزي؟
تستهدف المبادرات التي أعلن عنها البنك المركزي المصري، الخاصة بـ (التمويل العقاري ـ السياحة ـ إحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج «البنزين والغاز الطبيعي» ـ تشجيع الري بالوسائل الحديثة ـ دعم الصناعة)، إعادة ترميم قطاعات حيوية داخل الاقتصاد، وذلك بتوفير التمويل اللازم لها بتكلفة مدعومة، حيث كان البنك المركزي المصري الجهة المنوط بها تحمل تكلفة فارق سعر الفائدة لهذه المبادرات.
ولكن بعد القرار الخاص بتوزيع المبادرات على الجهات المختصة بها، وهي: وزارة الإسكان، وصندوق دعم السياحة والأثار، ووزارة المالية؛ أثير السؤال: كيف ستتحمل هذه الجهات الفرق بين أسعار الفائدة في هذه المبادرات، وبين سعر الإقراض السائد في السوق، والذي وصل حالياً إلى 14.25%؟
في ضوء ما سبق.. تتمثل أهداف هذا التحليل في معرفة دوافع اتخاذ هذا القرار، وكيف سيكون التعامل مع هذه المبادرات في ظل القرار الصادر، والفرق الكبير في أسعار الفائدة، مقدمًا بعض التوصيات والاقتراحات.
المبادرات:
(*) التمويل العقاري: أطلق البنك المركزي المصري هذه المبادرة، حيث خصص 100 مليار جنيه من خلال البنوك، وشركات التمويل العقاري؛ لتمويل شراء الوحدات السكنية لمتوسطي، ومحدودي الدخل، وذلك بسعر عائد متناقص 3 %، لمدة تصل إلى 30 عاماً، وتبلغ قيمة الوحدة لمحدودي الدخل حوالي 350 ألف جنيه، حيث يتم سداد 10 % من قيمة الوحدة كمقدم، بينما قيمة وحدة متوسطي الدخل تبلغ 1.1 مليون جنيه، حيث يتم سداد 20 % من القيمة كحد أدنى، وقد منحت هذه المبادرة أملًا كبيرًا للشباب؛ لسهولة الحصول على شقة سكنية بتقسيط قليل التكلفة.
(*) مبادرة تمويل القطاع الصناعي: تعتبر من أهم المبادرات الاستراتيجية التي تدعم أهم قطاع اقتصادي في مصر ، حيث صدر قرار من البنك المركزي المصري بتخفيض أسعار الفائدة بمبادرة القطاع الصناعي ،لتصبح 8% متناقصة بدلاً من 10% ،فقد كان البنك المركزي المصري هو الذي يعوض البنوك عن فارق سعر العائد، وتهدف المبادرة إلى تمويل مشروعات القطاع الخاص العاملة في القطاع الصناعي وكما تهدف إلى زيادة الطاقة الإنتاجية ،حيث تتضمن المبادرة منح تسهيلات ائتمانية لتمويل شراء الخامات و مستلزمات الإنتاج وتستهدف المصانع التي يتراوح حجم مبيعاتها من 50 مليون جنيه إلى مليار جنيه، ومن هنا يتضح الأثر القوى لهذه المبادرة على الاقتصاد .
(*) مبادرة السياحة: تعد من المبادرات الهامة التي تستهدف تنشيط قطاع السياحة في مصر الذى يعتبر من أكثر القطاعات تضرراً نتيجة أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ،ومن كونه أحد ركائز الاقتصاد القومي باعتباره مساهماً قوياً في الدخل القومي ومورداً أساسياً للنقد الأجنبي فقد استهدفت المبادرة منح فتره سماح عام يتم من خلالها ترحيل جميع الاستحقاقات القائمة على التسهيلات الائتمانية الممنوحة لكل من الفنادق والقرى السياحية وعدم حساب فوائد تأخير على الأقساط المؤجلة لمدة 3 سنوات كحد أقصى وكما يمكن من خلالها تأخير استحقاقات عملاء القروض لأغراض استهلاكية والقروض العقارية للإسكان الشخصي للعاملين بالقطاع السياحي .
(*) مبادرة تشجيع طرق الري الحديثة: تهدف إلى تحويل 4 ملايين فدان لاستخدام الاليات والوسائل الحديثة في ري الأرض الزراعية من خلال توفير تمويل ميسر للفلاحين؛ لتشجعيهم على الاعتماد على وسائل الري الحديثة، مما يعظم من الإنتاجية الزراعية، حيث يتم سداد تكلفة التحول على أقساط خلال 10 سنوات، دون تحملهم أي فوائد، مما يترتب على ذلك زيادة إنتاجية المحاصيل، ومن ثم زيادة العائد على المزارع.
(*) مبادرة إحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج: تهدف إلى التوسع في استخدام الغاز الطبيعي ترشيدًا للطاقة، مما يسهم بشكل كبير في الحفاظ عليها، وتراوحت مدة منح التمويلات بين 7 إلى 10 سنوات، والسداد على أقساط شهرية متساوية بسعر عائد مقطوع 3 %، وتبلغ قيمة المبادرة 15 مليار جنيه، وفي نهاية ديسمبر من العام الماضي 2021، استفاد من المبادرة 8100 مركبة بنحو ملياري جنيه.
دوافع قرار «المركزي المصري»:
(#) شروط صندوق النقد الدولي: كان السبب الأساسي لإلغاء مبادرات البنك المركزي هو مطالبات صندوق النقد الدولي بإلغاء المبادرات ذات الفائدة المنخفضة، وتوحيد جميع أسعار الفائدة في السوق المصرفي المصري، وخفض مطالبة الخزانة العامة عن أي تعويضات لدعم البنك المركزي المصري لهذه المبادرات.
(#) انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على قرارات البنك المركزي: حيث طالت تداعيات هذه الأزمة البنك المركزي المصري، وهو ما بدى واضحًا في مؤشرات الفترة الماضية، ومع تزايد الخسائر نتيجة هذه الأزمة في كافة الدول.
ويبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية هي أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى اتخاذ القرار، فسياسات البنك المركزي في هذه الفترة تفضل الابتعاد عما قد يكبدها أية خسائر، لذا فالبنك لا يستطيع أن يتحمل تطبيق مثل هذه المبادرات.
وبذلك فإن قرار البنك المركزي يمكن وصفه بسلاح ذو حدين إن جاز التعبير، فمن ناحية هناك أهمية قصوى لهذه المبادرات في دعم الاقتصاد، ومن ناحية أخرى هناك خسائر قد يتكبدها البنك المركزي حال الاستكمال في هذه المبادرات نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية.
المصدر : القوائم المالية للبنك المركزي المصري
مصير المبادرات:
ـ لا شك في أن قرار البنك المركزي المصري بأنه لن يكون الجهة المنوط بها تمويل المبادرات يجعل مصير هذه المبادرات مبهم، فتوزيع المبادرات على الجهات المبينة بالشكل السابق، يطرح سؤالًا مهمًا: هل المبالغ المخصصة لهذه الجهات يتيح تمويل هذا الفارق في سعر العائد حيث يصل سعر العائد الرسمي حالياً 14.25%؟
نلاحظ من الشكل رقم (2) أن أسعار الفائدة مدعومة بشكل كبير لهذه القطاعات، ويختلف عن سعر العائد الرسمي السائد في السوق الذى يسجل 14.25 %، مما يوحى بأن المبالغ التي ستتحملها هذه الجهات ليست بالقليلة، وأصبح على هذه الجهات كما جاء بالجريدة الرسمية أن تتأكد من توافر رصيد كافٍ بحساباتها لدى البنك المركزي لتمويل تكلفة المبادرات، وفي حالة عدم قدرة الجهات المبينة على تحمل تكلفة المبادرة التابعة لها، يتولى ذلك وزير المالية بالاشتراك مع الوزير المختص.
ـ بالنظر إلى الموازنة المخصصة للجهات التي ستؤول لها المبادرات في الموازنة العامة للدولة 20232/2022، نجد أنه تم تخصيص موازنة لوزارة الإسكان بقيمة 254.7 مليار جنيه؛ بينما قد تم تخصيص 99 مليار جنيه في العام المالي الماضي، وقد جاءت هذه الزيادة لتنفيذ حزمة من المشروعات في المدن الجديدة، حيث تم توجيه 17.1 مليار جنيه للهيئات الخدمية المختلفة، ومنها صندوق الإسكان الاجتماعي، ودعم التمويل العقاري، بالإضافة إلى تخصيص نحو 266 مليون جنيه لدعم الفائدة الميسرة على وحدات الإسكان الاجتماعي.
ومن المتوقع أن هذه الزيادة في مخصصات الإسكان ستسهم بنسبة ما في تغطية وزارة الإسكان للفروق في أسعار الفائدة، بالإضافة إلى أنه تم زيادة مخصصات هيئة تنشيط السياحة من 750 مليون جنيه في 2021/2020 إلى 1.6 مليار جنيه في 2023/2022.
وأيضًا تم تخصيص موازنة لصندوق دعم السياحة في موازنة 2022/ 2023 وهو الجهة المنوط بها مع وزارة الأثار تحمل الفروق في العائد الخاص بمبادرة دعم السياحة، ولكن بالنظر إلى وزارة الآثار سنجد أن هناك عجز بقيمة 600 ألف جنيه في المحلس الأعلى للآثار، وعجز آخر في الأجور، فلا بد من تغطية هذه المشاكل حتى تقوم هذه الجهة بدورها في تمويل المبادرات.
من هنا، يتضح أن الموازنة العامة الجديدة 2022 /2023 جاءت بزيادة في المخصصات الموجهة للوزارات والجهات الحكومية، وهو ما قد يؤدي إلى تخفيف العبء عن الجهات المعنية في تحمل تكلفة المبادرات، ولكن هذا وحده لا يكفي حتى تستمر المبادرات فى دورها الوطني، فهذه الزيادة في المخصصات، وزيادة قيمة الدعم الاجتماعي في الموازنة الجديدة، قد حمل الموازنة عجز كبير، كما نلاحظ من الشكل رقم (3)، حيث سجلت استخدامات الموازنة 3.066 تريليون حنيه بزيادة نسبتها 19.7% عن العام المالي الماضي، في حين سجلت إيرادات الموازنة العامة للدولة 1.542 تريليون جنيه بزيادة تصل إلى 11.2% في ذات العام، مما أدى إلى عجز بلغت نسبته نحو 1.523 تريليون جنيه بزيادة 14.5% .
المصدر: وزارة المالية: https://www.mof.gov.eg/ar
ـ إذًا، لابد من وجود سياسات اقتصادية أخرى يتم الاعتماد عليها لتقليل الضغط على الموازنة العامة للدولة، لذلك سنقترح بعض التوصيات التي تعمل على زيادة قدرة الجهات المعنية في تحمل تكلفة المبادرات، ومحاولة تقليل مخاوف عدم قدرتهاعلى تحمل التكلفة.
اقتراحات وتوصيات:
حتى يتم الاستمرار في تقديم المبادرات سالفة البيان، والاستمرار في دورها الإيجابي في دعم قطاعات حيوية داخل الدولة، نوصي بالآتي:
(-) أن يتم توجيه مبالغ من صندوق دعم مصر، ووضعها في حساب الجهات المعنية بهذه المبادرات في البنوك، حيث أن الهدف الأساسي من هذا الصندوق هو توجيه الدعم للاقتصاد الوطني وقطاعاته المختلفة، فإن مشاركة هذا الصندوق في تحمل عبء فارق العائد على هذه الجهات سيساعد على استمرار هذه المبادرات بنسبة كبيرة.
(-) توجيه نسبة من قرض صندوق النقد الدولي لتمويل هذه المبادرات، مما سيكون له أثر كبير على مساعدة الجهات المختلفة في دعم هذه المبادرات التي سيترتب على دعمها تحسين وضع الموازنة العامة للدولة، وتقليل العجز بها، وزيادة صادرات الدولة.
(-) مواجهة مشاكل القطاع السياحي الذي يعتبر من أكثر القطاعات تضرراً من الأزمة الروسية الأوكرانية وأزمة كرونا، حيث أن حل مشاكل العجز داخله تساعد على قدرته في دعم المبادرة الخاصة بدعم السياحة، فنقترح تقديم الدعم الكامل لصندوق دعم السياحة، وتطويره إدارياً كى يستطيع القيام بدوره.
(-) إنشاء صناديق متخصصة لهذه المبادرات تعمل على تنظيمها ومراقبة العمل بها، و تضمن فعالية هذه المبادرات في تحقيق هدفها الوطني، وهو ما يجعل المبادرات جزء أساسي من سياسة الدولة الحالية، لتشجيع قطاعات حيوية.
(-) العمل على زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، من خلال توجيه الدعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وإعطاء حوافز للمصدرين، مما يشجعهم على الإنتاج؛ فهذه السياسات إلى جانب المبادرات قد تؤدى إلى استيفاء الغرض منها، وإلغاءها.
(-) الاعتماد على الصناعات الخفيفة قليل التكلفة في التصدير، حتى تؤتي ثمارها على المدى القصير في تقليل عجز الموازنة العامة للدولة.
فى الختام، يتضح لنا أهمية استمرار هذه المبادرات نظرًا لدورها الكبير في تحسين قطاعات حيوية في الدولة، والغاء البنك المركزي تمويله لها لا يعنى إلغاءها بل هناك فرص لاستمراها حتى تحقق هدفها المنشود.
ونؤكد على ضرروه وجود سياسات وإجراءات فاعلة تعمل على تقوية ودعم القطاعات التي تشملها المبادرات، لأن هذه المبادرات الزمنية سينتهى دورها عند نقطة معينة، سيسرع من الوصول إليها إجراءات أخرى تدعم الصناعة، والزراعة، والسياحة؛ وتوفير وحدات سكنية مدعومة.