تأثير المتغيرات: إلى أين يصل مستوى العلاقات الخليجية بعد المصالحة؟
د.عبدالناصر سعيد
تساؤلات كثيرة أثيرت عقب الإعلان عن المصالحة- أسبابها ومغذي توقيتها- لكن أهم ما أثير، جاء متجاوزا للأجواء التفاؤلية بانتهاء الأزمة الخليجية، للسؤال عن فرص نجاح المصالحة في تجاوز القضايا الخلافية.
إنجازات أولية:
بعد ما يزيد عن ثلاث سنوات ونصف، من بداية الأزمة الخليجية في الخامس من يونيو عام 2017، والتي وضعت دول الخليج في مواجهة بعضها البعض، تمكنت قمة “العلا”- القمة الخليجية الـ(41)- التي عقدت في الخامس من يناير2021 بالسعودية، من إنهاء حالة الحصار المفروضة من المملكةِ العربيةِ السعوديةِ والإماراتِ والبحرين ومصرَ على قطر، على خلفية اتهام الأخيرة بدعم الجماعات الإرهابية، خاصة تنظيم الإخوان، فضلا عن قضايا التحريض المهددة والمزعزعة للأمن والاستقرار .
وقد أعادت “قمة العلا”، مجلس التعاون الخليجي إلى مباشرة أدواره الطبيعية، في ترتيب البيت الخليجي، والعمل على تصحيح مساراته، بحيث يصبح أكثر قدرة وفعالية على حل المشاكل الخليجية من دون اللجوء إلى عواصم دولية – بالرغم من وجود شركاء دوليين في إنجاز الحل- لكن القمة أكدت على إمكانية نجاح المقاربات الخليجية في رأب الصدع وتهيئة الأجواء، وتجاوز الخلافات البينية، مما يمهد الطريق لتحقيق تفهمات مستقبلية أفضل، حول القضايا الخلافية، لكن ما أنجز بالفعل- رغم أهميته- لا يعدو سوى إنجازات مبدئية، نقلت حالة المقاطعة إلى حالة العلاقات غير العدائية.
هواجس مستمرة:
فرغم هذه الأجواء الإيجابية إلا أنه لا يزال من المبكر الحديث عن نهاية فعلية للخلافات الخليجية، في ظل استمرار القضايا ذات الطبيعة الإشكالية، خاصة تلك التي ترتبط بأسباب جوهرية للأزمة الخليجية بالأساس، والتي من بينها:
– العلاقات مع إيران، حيث تحتفظ الدوحة بعلاقات تمايزية، من تعاون عسكري واستخباراتى، ودعم سياسي واقتصادي، وترقية للوضع الدبلوماسي بين البلدين، مما يصعب على قطر الإبقاء عليه، إذا ما استمرت التهديدات الإيرانية على حالها، ولم تغير إيران من توجهاتها العدائية إزاء الدول الخليجية، أو تحجم تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتحييد أذرعها التخريبية، التي لا تزال تعبث بأمن العراق وسوريا واليمن ولبنان.
– العلاقات مع تركيا، والتي ارتبط تصاعدها بأزمة المقاطعة وفرض الحصار على قطر، وهو ما دفع الأخيرة إلى تعزيز العلاقات مع تركيا، وتحويلها إلى علاقات إستراتيجية، توثقت أكثر بالقاعدة العسكرية التركية في الدوحة، والتي تراها دول خليجية وعربية، وجودها لا يتسق مع مساعي إزالة الخلافات، وتخفيف حدة التوترات بين دول المنطقة، خاصة في ظل السياسات التركية التوسعية، والتدخلات غير المبررة في شؤون الدول العربية.
– دعم المعارضة وتنظيم الإخوان الإرهابي، وهو ما تراه قطر أداة حيوية لتعزيز مكانتها وتقوية أدوارها العربية والإقليمية، باعتبار ما تقدمه من دعم لمثل هذه التنظيمات، يمنحها توازنا فعليا، خاصة تجاه علاقاتها مع دول كبيرة بحجم مصر، خاصة وأن دعم تنظيم الإخوان، بمثابة تحريض مباشر ضد الدولة المصرية، كما تراه بعض النظم الخليجية، يمثل خطرا وجوديا.
– الحملات الإعلامية العدائية، والتي تتبناها قناة الجزيزة، باعتبارها الذراع الإعلامي للدوحة، وأهم أدوات الضغط غير المرئية، تجاه الأنظمة العربية، حيث ترى الأخيرة أنها تتجاوز دورها كمنصة إعلامية، إلى أداة للتدخل في شؤون الدول العربية.
فرص إعادة البناء:
إن تحقيق المصالحة الخليجية، بلا شك إنجاز يستحق الإشادة، لكن المضي قدما في استمرارها، لا يزال بحاجة إلى المزيد من الخطوات، التي من شأنها تعزيز الثقة وإعادة العلاقات الخليجية إلى سابق عهدها، وأمام دول الخليج الآن فرص حقيقية لبناء علاقات خليجية جديدة، أكثر متانة، استنادا إلى معطيات الوضع الجديد في مرحلة ما بعد المصالحة الخليجية العربي، ومن أهم تلك الفرص:
– الرغبة الخليجية الرسمية والشعبية في تحقيق التوافق الخليجي، وتجاوز ما مضى من أزمات، وتفعيل منظومة مجلس التعاون الخليجي، وتطوير آلياته في سبيل التمكن من مواجهة ما يواجه دول الخليج من تحديات.
– عودة التنسيق بين دول الخليج في ملفات السياسة الخارجية الإقليمية والدولية، وتوظيف العلاقاتها الثنائية في التوصل للمزيد من التفاهمات حول الترتيبات الأمنية، لمواجهة ما تتعرض له دول مجلس التعاون الخليجي من تهديدات داخلية أو خارجية.
– الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها كل الدول، في ظل تفشي أزمة كورونا، والتي وضعت دول الخليج أمام تحدٍّ كبير في ظل انخفاض أسعار النفط، مما يتطلب البحث عن حلول استراتيجية، لمرحلة ما بعد الوفرة الاقتصادية، وهو أمر بحاجة إلى تعاون دول الخليج العربي.
– استعادة التوافق الخليجي وإتمام المصالحة؛ يمثل جسراً عملياً لإمكانية استعادة التوافق العربي، وفرصة لمعالجة القضايا الخلافية في إطار مقاربات عربية عربية، مما ينعكس بصورة إيجابية على قدرة مجلس التعاون الخليجي على دعم منظومة العمل العربي المشترك.
– ضغوط البيئة الإقليمية والدولية، والتي تدفع بتعزيز فرص التعاون الجماعي أكثر من أي وقت مضى، في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، ولا تتطلب البحث عن التوافق والبعد عن الخلاف، فلا عداوات ولا صداقات دائمة، ولكن هناك مصالح خليجية خليجية دائمة.
بلا شك من الصعب إنهاء كافة القضايا الخلافية بين قطر وبعض دول المقاطعة، في ظل تعقيدات الأزمة، واشتباكها مع قضايا إقليمية، لكن تعثر المصالحة، وعدم تمكنها من تحقيق إنجازات فعلية، سيضع العلاقات الخليجية أمام اختبار حقيقي، وسيبقى التوافق محل رهان؛ مع استمرار الخلافات التي يمكنها عرقلة عودة العلاقات الخليجية الخليجية إلى سابق عهدها، مما يمنح الفرصة لصدقية التصورات والتكهنات التي ربطت تحقيق المصالحة بجهود خارجية، أكثر من كونها تعبيرا عن إرادة خليجية ذاتية، نابعة عن مراجعات وتفاهمات حقيقية.
بالختام سيظل تحقيق المصالحة الخليجية لإنجازات فعلية، رهنا بالقدرة على معالجة الملفات التي لم تحسم بعد، والتي تتطلب توافر إرادة سياسية، قادرة على تقديم تنازلات حقيقية، والقبول بحلول وسطية، كي تتمكن الأطراف الخليجية من الإبقاء على علاقاتها أكثر تماسكا.
والمؤكد أن النظر إلى المستقبل، يجعل من العمل داخل مجلس التعاون الخليجي، أكثر أهمية من أي وقت مضى، في ظل ما تواجه المنطقة من اضطرابات، تتطلب رأب الصدع، وإخلاص النوايا، والسعي لتفعيل لجنة فض المنازعات، لحل ما يمكن أن ينشئ بين دول المجلس من خلافات.