لماذا كرر البنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة؟

رفع البنك المركزي المصري يوم الخميس 27 أكتوبر 2022، وفى اجتماع استثنائي، معدلات الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس، ليصبح سعر عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة 13.25 % و14.25 % على التوالي. كما تم رفع سعر الائتمان والخصم بنفس المقدار ليصل إلى 13.75% وذلك بعد ما سبق وقررت لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي الإبقاء على سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند مستوى 11.25%، 12.25% و11.75% على الترتيب فى سبتمبر الماضي، كما تم الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 11.75%، هذا ويذكر أن البنك المركزي كان قد رفع آخر مرة سعر الفائدة 3% خلال اجتماعين متتالين بواقع 1% في اجتماع استثنائي للجنة السياسة النقدية في 21 مارس 2022، و2% في مايو الماضي من العام ذاته، تماشيا مع الانعكاسات السلبية للحرب الروسية الأوكرانية. كما أعلن البنك المركزي المصري أنه سيعتمد نظام سعر مرن لصرف قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، استنادا لآلية العرض والطلب في السوق استمرارا لإجراءات التعويم التى بدأت منذ عام 2016.
من هذا المنطلق نستعرض فى هذا التحليل طبيعة وأسباب التوجهات العالمية نحو رفع أسعار الفائدة، وما هى الأسباب التى دفعت المركزى المصرى نحو تبنى سياسات الانكماش على الجانب النقدى، وطبيعة المزايا والمخاطر التى قد تكتنف هذا القار.
تحركات عالمية:
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ، وحتى الوقت الراهن رفعت ما يقرب من 45 دولة أسعار الفائدة في الأشهر الماضية أهمها: دول الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة وإنجلترا والهند ودول عربية وخليجية أخرى ، في محاولة لاحتواء أسرع تضخم لم تشهده دول العالم منذ عقود، وتعد تلك المعدلات المرتفعة لأسعار الفائدة أدوات قوية لمكافحة ارتفاع الأسعار ، فهي تجعل اقتراض الأموال أكثر تكلفة وعائد المدخرات أعلى ، مما يؤثر على طلب المستهلكين وتوسعات الأعمال الإنتاجية، وان كان يصاحبها مخاوف أن تمتد تلك الآثار الى الاقتصاد فى شكل مرحلة ركود وشيكة.
وإن كانت المسيرة التصاعدية لأسعار الفائدة في العالم هي خروج كبير عن نهج السياسة في أعقاب الأزمة المالية، عندما كان محافظو البنوك المركزية في كثير من الأحيان يقومون بزيادات متقطعة – إن وجدت أصلاً. كما أن قبل تفشي فيروس كورونا، اعتقد الاقتصاديون أن العالم قد يكون عالقًا فى ظل تضخم منخفض وبطء لمعدلات النمو – وبدأت العديد من اقتصادات العالم في دفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض. ولكن بعد اندلاع الوباء، انتهى الأمر بحزم الإنفاق التحفيزي الحكومي التي تهدف إلى التخفيف من التداعيات الاقتصادية والتوجه إلى إنعاش الطلب. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتغير المشهد نحو متغيرات اقتصادية أخرى أصبح لابد من التركيز عليها أهمها التضخم، حيث أصبحت دورة السياسة النقدية الآن متزامنة بشكل متزايد حول ما يعانيه العالم. من انعكاسات سلبية وأوضاع مالية غير مستقرة، كما بدأت بعض البنوك المركزية في تقليص حجم ميزانياتها العمومية، والمضي قدمًا نحو تكميش السياسات المالية والنقدية معا، نظرا لأن الأسعار المستقرة هي شرط أساسي مسبق للنمو الاقتصادي المستدام. ولا يمكن للسياسة النقدية أن تحل الاختناقات المتبقية المرتبطة بالحرب متمثلة في سلاسل التوريد العالمية والاضطرابات في أسواق السلع. ولكن كل ما تفعله هو أن تسهم فى إبطاء الطلب الكلي لمعالجة الضغوط التضخمية المرتبطة بالطلب.
كما تأتى التحركات الدولية نحو رفع أسعار الفائدة فى محاولة منها للحفاظ على تدفقات رؤوس الأموال الساخنة بأسواقها المالية، والتى شهدت تخارج كبير من العديد من الأسواق الدولية فى ظل الحرب الروسية، فقد تباطأ إصدار سندات الأسواق الصاعدة والواعدة بالدولار الأمريكي وغيره من العملات الرئيسية حتى بلغ أضعف وتيرة سجلها منذ عام 2015. ما هو موضح فى الشكل رقم (1).
شكل رقم (1) تخارج رؤوس الأموال الساخنة من الصين وغيرها من الأسواق الصاعدة حتى يوليو2022.
أسباب مدروسة:
بلغت تقديرات تكلفة الحرب الروسية الأوكرانية على موازنة مصر نحو 465 مليار جنيه (24.4 مليار دولار) مقسمة بين 130 مليار جنيه (6.8 مليار دولار) تكلفة مباشرة، ونحو 335 مليار جنيه (17.6 مليار دولار) تكلفة غير مباشرة، كما عانى ميزان المدفوعات الكلي في التسعة أشهر الأولى من العام المالي 2021\2022 (يوليو- مارس) ليسجل عجزا بقيمة 7.3 مليار دولار، مقابل فائض بحوالي 1.8 مليار دولار في نفس الفترة من العام الماضي. وذلك إيضاح بسيط لطبيعة انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد المصرى. ويعتبر السبب الرئيسي لرفع أسعار الفائدة فى مصر هو مواكبة أسعار الفائدة في الأسواق الناشئة المماثلة والتي تشهد ارتفاعا بالفائدة؛ وبالتالي يصبح لزاما على مصر أن تحافظ على العائد لنسبة المخاطرة مقارنة بالأسواق الأخرى. خاصة وأن السوق المصري واجه تخارجاً لرؤوس أموال المستثمرين الأجانب تجاوز حتى الوقت الراهن 26 مليار دولار ، وهذا الرفع هو القادر أن يوقف نسبيا هذا التخارج.
هذا فضلا إلى كبح جماح التضخم وتشجيع الادخار؛ وبالتالى سحب سيولة من الاقتصاد، حيث بلغ المعدل السنوي للتضخم الأساسي ارتفع خلال شهر سبتمبر الماضي إلى 18% مقارنة 16.7% في شهر أغسطس الماضي. ويستهدف البنك المركزي معدل التضخم عند مستوى 7% (بزيادة أو نقصان 2%) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2022. ومن المتوقع أن تؤدي الزيادة في الأسعار العالمية والمحلية إلى ارتفاع معدل التضخم العام عن نظيره المستهدف من قبل البنك المركزي والبالغ 7% في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2022، وذلك نظرًا لأن قرار رفع أسعار الفائدة يعني أن المُودع يحصل على عوائد أعلى ، مما يشجعه نحو إيداعها بالبنوك؛ ويترتب على ذلك عرض للنقود أقل داخل الاقتصاد ؛ وبالتالي يتراجع الاستهلاك والاستثمار، وتعيد الأسواق برمجة القوة الشرائية، بناءً على السيولة المتوفرة.
شكل رقم (2) اتجاهات معدل التضخم فى مصر خلال الفترة من أكتوبر 2021 وحتى أكتوبر 2022
يضاف إلى ذلك الرغبة فى الحفاظ على مستويات مقبولة من الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزى، والتى تعد بوليصة تأمين في أي ظروف دولية غير مواتية ، حيث قام المركزي بتصحيح سعر الصرف في مارس 2022، ونتج عنه زيادة في تدفقات النقد الأجنبي بنسبة 30% خلال الشهر ذاته ، ومن المتوقع أن يؤدى تحرير سعر الجنيه تجاه الدولار بشكل كامل إلى تحسين وضع الصادرات المصرية وجعلها أرخص وأكثر تنافسية ، كذلك جذب الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة ، والسياحة ، مما يرفع نسبيا من حجم الاحتياطي النقدى الأجنبي لمصر. كما أن رفع سعر الفائدة يؤدي أيضاً إلى امتصاص المشكلات الراهنة بالاقتصاد المصرى والتى حالت الطرق دون إنقاذه إلا بالأدوات النقدية الأسرع تأثيرا، والتى لا تستخدمها مصر فقط بل غالبية دول العالم، وبالتالي يحول دون حدوث فقاعة اقتصادية ومالية يؤدي انفجارها إلى انهيار وركود اقتصادي طويل الأمد. حيث يذكر أن أحد العوامل التي أسهمت في الأزمة المالية العالمية خلال عامي 2008 و2009 كان التيسير النقدي الكبير السابق عليها، مما أدى إلى حالة عدم استقرار في السوق، وتحولت الفقاعة إلى أزمة حادة.
كما أن التعويم الكامل للجنيه المصرى عادة ما يصاحبه عدم استقرار فى سعر العملة فتنخفض قيمتها، ثم تستقر نسبيا عند السعر العادل فيما يسمى ” بالعملية التصحيحية”، وهو إجراء من ضمن إجراءات الإصلاح الاقتصادى التى تبنته معظم دول العالم منذ تسعينيات القرن العشرين، ولم يعد فى مقدور مصر الاستغناء عن هذا الإجراء، فبرامج الانفتاح الاقتصادي كتلة واحدة لا تتجزأ مع العلم أن تلك البرامج لها الكثير من المزايا ولها أيضا العديد من العيوب ولكن مع تطور اقتصادات العالم لم يعد هناك مفر م تلك البرامج. ويساعد تعويم سعر صرف العملة الوطنية فى الوقت الراهن من تحجيم ظاهرة الدولرة، والتي عادت للظهور بعد انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار، حيث يتم بيع الدولار فى السوق السوداء بأسعار مقاربة بشكل كبير لما وصل إليه الجنيه المصري الآن مقابل الدولار وهى 23 جنيه للدولار الواحد تقريبا، وبالتالى يعتبر تحريك سعر الصرف عامل مساعد على سد الفجوة بين سعر الدولار فى السوق السوداء والسوق الرسمى، وخاصة أن خلال الفترة الماضية لجأ العديد من التجار إلى السوق السوداء لشراء الدولارات وهو ما أثر بشكل كبير على أسعار السلع والمواد الغذائية فى مصر.
مخاوف محيطة:
أثار قرار المركزى المصرى العديد من المخاوف لدى المواطنين، وكان أساس تلك المخاوف أن يؤدى رفع أسعار الفائدة إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، وبالتالي يؤثر ذلك سلبا على المستثمرين وتراجع وتيرة الإقدام على طلب التسهيلات الائتمانية في الأسواق، مما يضع أثار سلبية على حركة الإنتاج والنمو. كما أن رفع سعر الفائدة يزيد من عجز الموازنة في الدولة المعنية، ذلك لأن كلفة الدين الداخلي ترتفع وتضطر الحكومة إلى دفع مستحقات دين أعلى. كذلك الديون الخارجية لأن معظمها مقومة بالدولار، وبالتالي فإن رفع الاحتياط الفيدرالي لسعر الفائدة يزيد من أعباء ديون تلك الدول، كما أنه يجعل قدرة الدول المدينة على إعادة جدولة ديونها أكثر كلفة.
يضاف إلى ذلك أن تراجع قيمة الجنيه المصرى تجاه الدولار تعنى ارتفاع فاتورة الواردات المصرية التى تعانى بالفعل من الارتفاع المتزايد بفعل تضاعف أسعار السلع المستوردة عالميا. كما أن الصناعة المصرية قائمة بشكل كبير نسبيا على مدخلات الإنتاج المستوردة، مما يعنى ارتفاع تكاليف الإنتاج لتلك الصناعات نتيجة خفض سعر صرف الجنيه فى ظل مخاوف بزيادة تنافسية الصادرات المصرية فى ظل تأثر العملية الإنتاجية باستيراد الخامات، في المقابل يتسبب التعويم الكامل للجنيه المصرى في موجة غلاء للأسعار وزيادة للتضخم وتراجع مستويات المعيشة ، خاصة وأن حجم واردات مصر ارتفعت بعد الأزمة الأوكرانية إلى 8 مليارات دولار شهريًا من 5 مليارات دولار قبل الأزمة، نتيجة تحوط مستوردين بشراء منتجات تفوق الاحتياجات.
وردا على تلك المخاوف والمخاطر المتوقعة، نجد أن الدولة المصرية تدرس حاليا ضمن توصيات المؤتمر الاقتصادي 2022 ، فكرة مؤشر الجنيه المصرى، والتى جاءت بناء على تصور أن الدولار لا يعكس قيمة الجنيه المصري الحقيقية مقارنة بعملات أخرى.خاصة وأنه تراجع أمام 5 عملات رئيسية هي الدولار الأميركي والفرنك السويسري واليوان الصيني واليورو والجنيه الإسترليني منذ نهاية عام 2021، وحتى 24 أكتوبر الجاري، باستثناء الين الياباني الذي ارتفع أمامه بنسبة 3.5%.. وبالتالي لا يوجد داع لربط الجنيه المصري بالدولار مثل الدول المصدرة للنفط، وينبغي ربطه بسلة من العملات الأجنبية والذهب؛ وحتى يكون هناك توازن في تقييم العملة يجب النظر إلى العملة مقارنة بالعملات الأجنبية الأخرى وليس الدولار فقط. كما سيعمل البنك المركزي المصري على بناء وتطوير سوق المشتقات المالية بهدف تعميق سوق الصرف الأجنبي ورفع مستويات السيولة بالعملة الأجنبية.
كذلك سيقوم البنك المركزي المصري بإلغاء تدريجي للتعليمات الصادرة بتاريخ 13 فبراير 2022 والخاصة باستخدام الاعتمادات المستندية في عمليات تمويل الاستيراد حتى إتمام الإلغاء الكامل لها في ديسمبر 2022. ويعد ذلك بمثابة حافز لدعم النشاط الاقتصادي على المدى المتوسط.فضلا عن أن مشكلات الإنتاج فى مصر لا تقتصر فقط على أسعار الفائدة، فالصعوبة الأكبر حاليا نقص المواد الخام ومستلزمات الإنتاج بفعل مشكلات سلاسل الإمداد العالمية، كما أن مصر تتبع منذ فترة سياسة لحماية لقطاع الصناعة عبر مبادرة الإقراض بعائد 8%، كما تمت حمايته من الموجة التضخمية عبر دعم الطاقة وتكاليف النقل والشحن وغيرها من الإجراءات العديدة لدعم الصناعة المصرية وحركة الصادرات. كما أن البنك المركزي حاول تحجيم الاستيراد لبعض السلع غير الضرورية.
يضاف إلى ذلك سلسلة الإجراءات التي اتبعتها مصر للخفيف عن المواطنين فى الفترة الأخيرة كان أهما رفع الحد الأدنى للمعاشات وحوافز العاملين بالقطاع الحكومى، كذلك المنحة التموينية لمدة سنة أشهر، يضاف إلى ذلك اتخذ الرئيس السيسى توجيهات عاجلة لثبيت أسعار الكهرباء حتى نهاية يونيو عام 2023، والبنزين حتى نهاية العام الجارى، كذلك تثبيت أسعار المترو والقطارات، ورفع الحد الأدنى للأجور من 2700 إلى 3000 جنيه، وصرف علاوة استثنائية لأصحاب المعاشات، هذا فى ظل جهود مبادرة حياة كريمة وضم أكثر من 400 ألف أسرة لبرنامج تكافل وكرامة
تأسيسا على ما سبق، يواجه صناع السياسات الاقتصادية عبر كافة دول العالم بيئة يتعرض فيها الاستقرار المالي لمصاعب استثنائية. ورغم ما قد تتضمنه القرارات الاقتصادية والسياسات من مخاطر وتكاليف، إلا أنه لابد من تقييم موضوعي للآثار الايجابية التى قد تشملها تلك القرارات والتى تسعى لإنقاذ الاقتصاد وهو ما يجب أن يركز عليه المواطنين عند تقييمهم للقرارات، فهناك ضرورة لمقارنة العائد المتوقع بالتكاليف، سنجد أن القرار هو الأصح فى المرحلة الراهنة خاصة إذا كنا نتعامل فى إطار عالمى يتجه نحو نفس القرارات تقريبا. وان كان من الضروري تحقيق التوازن بين احتواء هذه المخاطر المحتملة وتجنب تشديد الأوضاع المالية على نحو غير منظم.وهو ما سوف يتابعه البنك المركزي المصري عن كثب ليكون على قدر من المرونة فى قراراته بما يسمح بمتابعة التطورات الاقتصادية، وبالتأكيد لن يتردد في استخدام كافة أدواته النقدية لتحقيق هدف استقرار الأسعار وحماية الاقتصاد المصري.