دعاة لا قضاة… أكذوبّة المراجعات الفكريّة لـ”الإخوان”
عمر فاروق
بعنوان دعاة لا قضاة… أكذوبّة المراجعات الفكريّة لـ”الإخوان”، كتب عمر فاروق في “النهار العربي”: “منذ ثلاثينات القرن الماضي وجماعة “الإخوان المسلمين” غارقة في التكفير وجاهلية المجتمع وتوظيف العنف منهجاً أسياسياً في طرح مشروعها التوسعي، ابتداءً من المدرسة الأولى، المسماة بالمدرسة “البناوية”، على يد مؤسسها حسن البنا، مررواً بالمدرسة الثانية، أو ما تعرف بالمدرسة “القطبية”، انتساباً الى سيد قطب.
حاولت الجماعة على مدار تاريخها التنصل والتبرؤ من مفردات التكفير وأدبيات العنف المسلح، وغسل سمعتها من جرائم تيارات الإسلام السياسي، منذ أربعينات القرن الماضي، فضلاً عن عنف الثمانينات والتسعينات، انتهاءً بانتهاكات الجناح المسلح الذي وُلد عقب ثورة حزيران (يونيو) 2013، موجهاً ضرباته تجاه المؤسسات العسكرية والأمنية في القاهرة.
كان “تنظيم 65” علامة مميزة في بلورة المشروع البناوي القطبي لدى جماعة الإخوان على المستوى الفكري والتنظيمي، وانتقالها من حيّز السياسة والقوة المؤجلة وإشكالية “التغيير من أسفل”، استقطاباً للمجتمع لصناعة ما يسمى بـ”الفئة المؤمنة”، إلى أطروحات “التغيير من أعلى”، أو الصدام المباشر المسلح مع الأنظمة السياسية الحاكمة، وفقاً لرؤية سيد قطب، واتساقاً مع مفاهيم شيخه أبو الأعلى المودودي.
وضعت المدرسة الثانية داخل “الإخوان” في مقدمة أولوياتها قضية “الحاكمية” ومبادئ التفكير، وشرعنة توظيف القوة المسلحة، و”العزلة الشعورية” انفصالاً عن المجتمع الجاهلي، وتحقيقاً لحالة الاصطفاء الإلهي، تمهيداً لترتيب الهيكل التنظيمي وتشكيل الخلايا المكلفة تنفيذ مخطط إسقاط الدولة، وإعلان قيام ما يسمى بـ”الثورة الإسلامية”.
لم يكن التغيير في الرؤية الفكرية لسيد قطب نتيجة لسجنه وتعذيبه مثلما تردد قيادات الجماعة؛ إذ حصل على إذن رسمي بالكتابة والتأليف والنشر أثناء قضائه فترة العقوبة، بناءً على حكم قضائي حصلت عليه “دار إحياء الكتب العربية”، التي وقعت عقداً مع قطب عام 1952، ما ينفى نهائياً مزاعم تعرّضه للتعذيب داخل السجون.
ألف قطب من داخل محبسه الأجزاء الـ12 الأخيرة من كتاب “في ظلال القرآن”، وبدأ ينقّح الأجزاء الـ18 الأولى التي كان قد نشرها بين عامي 1952 و1954 قبل سجنه، فضلاً عن تأليفه كتاب “خصائص التصوّر الإسلامي ومقوّماته”، و”الإسلام ومشكلات الحضارة”، و”هذا الدين”، و”معالم في الطريق”، وتنقيحه كتابيه: “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، و”السلام العالمي والإسلام”، وفقاً لما ذكره الباحث الأكاديمي شريف يونس في رسالته الجامعية “سيد قطب والأيديولوجية الأصولية”.
خرج كتاب “معالم في الطريق” حاملاً مجموعة من الانحرافات الفكرية والتشويهات العقائدية التي تلقفتها المئات من القواعد التنظيمية، ومهّدت الطريق نظرياً وحركياً لميلاد جيل جديد من تنظيمات تكفيرية اتخذت العنف منهجاً ومسلكاً للوصول لأسلمة الدولة والمجتمع، وبناء دولة الخلافة التي اعتبرتها غاية وهدفاً، مثل جماعة “الجهاد”، وجماعة “التكفير والهجرة” و”السماويون”، و”الناجون من النار”، و”الشوقيون” وغيرهم.
ارتمى الكثير من شباب “الإخوان” في أحضان سيد قطب وأفكاره التكفيرية التي بلورت ظهور ما يسمى بـ”التيار القطبي” ورموزه، الذين رفضوا فكرة الصلاة في المساجد باعتبارها معابد جاهلية، ونادوا بالعزلة عن المتجمع، أمثال محمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي إسماعيل، ومحمد قطب، مؤلف كتاب “جاهلية القرن العشرين”، وعبد المجيد الشاذلي، وأحمد عبد المجيد عبد السميع.
أربكت أطروحات سيد قطب الكثير، وأحدثت جدلاً بين جدران السجون المصرية حينها، وانقسم “التيار القطبي” على نفسه، واتجه بعضهم إلى التمسك بالتنظيم الإخواني، والسيطرة على مقاليد السلطة فيه، فساروا بالجماعة نحو خطاب معلن موجه الى ال#رأي العام وفقاً لمقتضيات الحاجة والمصلحة التي تحقق أهداف مشروع “التمكين”، وتوجه خطاب آخر سري الى القواعد التنظيمية وفقاً لأدبيات التأهيل والتصعيد التربوي، يتوافق مع أبجديات المنهج القطبي.
وقاد الإخواني الأزهري، علي عبده إسماعيل (شقيق عبد الفتاح إسماعيل الذي أعدم مع سيد قطب عام 1966)، فصيلاً من التيار القطبي، لتأسيس جماعة مسلمة تكون بمثابة نواة للمجتمع الإسلامي، تقوم على أنقاض دولة الكفر والجاهلية، وأطلق عليها “جماعة المسلمين”، داعياً إلى اعتزال المجتمعات المعاصرة باعتبارها بعيدة عن ماهية الإسلام وحقيقته، مستعيداً فكرة “الهجرة” في تأسيس المجتمع المسلم الجديد.
والتفّ عدد من شباب “الإخوان”، حول علي إسماعيل، باعتبار آرائه تمثل تجسيداً لأفكار سيد قطب، لكن سرعان ما أعاد النظر في أفكاره التكفيرية، وبلورها في نظرية تحت عنوان “التوقف والتبيين”، بمعنى أن من يدعي أنه مسلم، لا تحكم عليه الجماعة بالإسلام أو الكفر، إلا بعد أن تتوقف وتتبين إسلامه من كفره، وأن البيّنة هي لزوم “جماعة المسلمين”، ومبايعة إمامها أو من ينوب عنه، فمن أجابها كان مسلماً، ومن رفضها كان كافراً.
رأى إسماعيل أن نظرية “التوقف والتبين”، ضلالة كبرى وفتنة عظمى، فبعدما فرغ من صلاته في أحد أيام عام 1969، قام وخلع جلبابه قائلاً: “لقد تبين لي أن الفكر الذي كنت عليه هو فكر الخوارج، وهو فكر يفرّق الأمة ويقضي على الجماعة، لذلك أنا أخلع عني هذا الفكر، كما أخلع جلبابي هذا”، معلناً براءته من فكر “جماعة المسلمين”.
تلقى تلاميذ علي إسماعيل، أزمة تراجعه الفكري، بحالة من الذهول والرفض، واعتبروه ناكصاً على عقبيه ومتخاذلاً عن دعوة الحق، فتمسك بعضهم بأفكار “جماعة المسلمين”، ورفضوا التراجع عنها، وكان على رأسهم شكري مصطفى، وعبد الله السماوي، وعبد المجيد الشاذلي.
تولى شكري مصطفى، قيادة “جماعة المسلمين”، التي صاغها فكرياً وتنظيمياً علي إسماعيل، وطرحها عقب خروجه من السجن تحت مسمى “التكفير والهجرة”، بينما تبنى مبادئ نظرية “التوقف والتبين”، عبد المجيد الشاذلي، الذي أسس “أهل السنة والجماعة”، وعرفت إعلامياً بـ”القطبيون”.
خلال تلك المهزلة الفكرية، خرج إلى النور كتاب “دعاة لا قضاة” المنسوب زوراً لمرشد الإخوان، حسن الهضيبي، لكنه في الحقيقة من تأليف الشيخ علي إسماعيل، الذي أراد أن يغسل سمعته ويديه من فكر التكفير، وفقاً للكثير من الأدلة، إذ إن صياغته فقهية شرعية، تتفق مع توجهات علماء الأزهر الشريف، وهو ما لم يتناسب مع وضع حسن الهضيبي وفكره إطلاقاً.
اعتبر البعض أن كتاب “دعاة لا قضاة”، الذي صدرت طبعته الأولى بعد 9 سنوات من تأليفه عام 1977، بمثابة أول مراجعة فكرية في صف الجماعات الأصولية، خارجة من جدران التنظيم الإخواني، وأنها بذلك سابقت الجماعة الإسلامية وتنظيمات الجهاد في تقديم مراجعات فكرية شاملة للمنهج القطبي.
المتفحص للمشهد يجد أن الهضيبي أراد أن يرجع بالجماعة الى أدبيات المدرسة الأولى ومنهج البنا القائم على المراوغة الفكرية والسياسية، مستخدماً “التقية الفقهية”، للحفاظ على الهيكل التنظيمي بعدما أشعلت أفكار سيد قطب الخلافات والصراعات داخل الكيان الإخواني وكادت تقضي عليه نهائياً، في ظل صدام سياسي وفكري مع النظام والمجتمع.
ربما يؤكد هذه المعلومة ما جاء في كتاب “الإخوان وأنا”، للواء فؤاد علام، (نائب رئيس جهاز أمن الدولة الأسبق وأحد شهود العيان على تنظيم 65)، من أن كتاب “دعاة لا قضاة” لا يعبّر عن فكر “الإخوان”، وأن الذي وضعه هم مجموعة من علماء الدين بطلب من المباحث العامة المصرية، وأعطوه لمأمون الهضيبي الذي أوصله إلى والده، ثم أصدره باسمه.
في حقيقة الأمر كان الهضيبي مؤيداً لمشروع سيد قطب التكفيري، بناءً على اعترافات أعضاء “تنظيم 65″، أمثال أحمد عبد المجيد، الذي ذكر في كتابه “الإخوان وعبد الناصر”، نقلاً عن سيد قطب نفسه: “عندما شكا أعضاء مكتب الإرشاد، وهم في سجن الواحات – وكان المرشد تحت الإقامة الجبرية – من آراء سيد قطب الواردة “في ظلال القرآن” ونقلوا شكواهم وشكوى الإخوان منها في هذا السجن، حسم المرشد الشكوى لمصلحة سيد قطب، فأجابهم: “ما قاله صاحب الظلال هو الحق الذي لا شك فيه”، وبدأ الإخوان بعدها يتدارسون الظلال في سجن الواحات في صورة مجموعات، بإشراف أعضاء مكتب الإرشاد، وكذلك تم الشيء نفسه في سجن القناطر باستثناء البعض، وتم ذلك على اعتبار كلام المرشد موافقة على ما ورد في الظلال، ولما سُئل المرشد عن كتاب “معالم في الطريق” قال: إنه كتاب عظيم”.
ما يدعم هذا الطرح أن جماعة الإخوان لم تمنع طباعة كتب سيد قطب، أو عملت على تحجيم نشر أطروحاته الفكرية، ما يعني أنها وقياداتها لم تؤمن لحظة واحدة بالمنهجية الفكرية لكتاب “دعاة لا قضاة”، وتمسّكت قولاً وعملاً بما طرح في كتاب “معالم في الطريق”، و”في ظلال القرآن”، بل وضعتهما ضمن مناهجها التربوية لقواعدها التنظيمية.
ولعل خير دليل على ذلك أن مختلف المرجعيات الإخوانية التي صاغت الأدبيات الفكرية للجماعة استندت في أطروحاتها الى المنهجية القطبية، مثل كتاب “الجهاد هو السبيل”، و”الإسلام والحكومة الدينية”، للمرشد الأسبق مصطفى مشهور، وكتاب “الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين”، لعلي جريشة، وكتاب “حياتنا الحركية”، وكتاب “فصول في الإمرة والإمارة”،للإخواني السوري سعيد حوى، وكتب “العوائق”، و”المنطلق”، و”المسار”، للإخواني العراقي محمد أحمد الراشد، وكتاب “الإسلام فكرة وحركة”، و”ماذا يعني انتمائي للإسلام”، للإخواني اللبناني فتحي يكن، وهذه الكتب تمثل البنية الأساسية لتأهيل أفراد الجماعة فكرياً وثقافياً وتشكيلها.
أكذوبة المراجعات الفكرية لجماعة “الإخوان”، حقيقة في ذاتها، إذ إنها لم تترك أفكار التكفير أو تبعد عنها ذرة واحدة، بناءً على ما ترجم على أرض الواقع خلال العمليات الإرهابية التي شنتها ضد الشعب المصري عقب ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، وفقاً لمعتقدات شرعية، مرجعها سنداً وتأصيلاً للتيار القطبي وزعيمه.
طرحت الجماعة مجموعة من الدراسات والأبحاث ألبستها رداء الشريعة، وحملت تبريراً منهجياً لتكفير المجتمع، وجواز إسقاط النظام السياسي والشعبي جملة وتفصيلاً، فقدمت دراسة شرعية تحت ما يسمى “فقه الاختبار والمحن”، اعتبرت أن مكتب الإرشاد يمثل السلطة الشرعية والتشريعية للدولة المصرية (أهل الحل والعقد)، مانحة “الإجازة الفقهية” لعناصرها بتنفيذ العمليات المسلحة ضد مسقطي دولة “الإخوان” ومشروعهم، فضلاً عن ثلاثة كتب لشرعنة حمل السلاح، وأجازت تكفير الحاكم والمحكوم، وهي كتاب “فقه المقاومة الشعبية”، و”دليل السائر ومرشد الحائر”، و”كشف الشبهات عما وقع فيه الناس من اختلافات”، ولفتت إلى أن الانتقال الى العمل النوعي المسلح لا يعد تغييراً في استراتيجية التنظيم، إذ إن “السلمية ليست من ثوابت الإسلام وليست من ثوابت الجماعة، وإن النزعة الجهادية استقرت كعقيدة فى صلب منهجية حسن البنا”، وإن القوة جزء من منهجية “الإخوان” كما قال البنا في رسالة المؤتمر الخامس: “القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، والإخوان المسلمون سيستخدمون القوة العملية حيث لا يُجدي غيرها”.
نقلا عن النهار العربي