ارتباك مفاجئ: ماذا بعد استقالة ليز تراس؟

في نهاية دراماتيكية، انتهت ولاية رئيسة الحكومة الجديدة ليز تراس بعد أن تقدمت باستقالتها في ٢٠ أكتوبر الجاري، بعد ٤٥ يوما فقط من ولايتها الأقصر في تاريخ بريطانيا. وبهذا قد تدخل بريطانيا في دوامة سياسية مجددا حتى يختار حزب المحافظين رئيسا جديدا للوزراء للمرة الثانية خلال أسابيع قليلة فقط، في ظل الاضطرابات الداخلية المقلقة في الداخل البريطاني، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي. وها نحن الآن في انتظار سباق انتخابي جديد خلال الساعات المقبلة، وسيتم الإعلان عن المرشحين بشكل نهائي الاثنين.

وتأسيسا على ما تقدم، يناقش هذا التحليل أسباب الاستقالة المفاجئة لرئيسة الوزراء البريطانية في هذا التوقيت، التي لم يمضِ شهران على توليها المنصب، ومن هم أبرز المرشحين لخلافتها، وحظوظهم، ومدى تأثير كل تلك الأحداث على مستقبل حزب المحافظين.

تصدع اقتصادي:

ما لا يستطيع منصفٌ إنكاره، أن ليز تراس قد تولت منصبها في ظروف اقتصادية استثنائية بالغة الصعوبة، على إثر تداعيات الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة التي لم يعرف العالم نهايتها حتى الآن، مع وجود أزمة تضخم كبيرة وزيادة معدلات الضرائب التي سبق وأن فرضها ريشي سوناك حينما كان وزيرا للمالية في حكومة جونسون، وساهم هذا كله في غلاء المعيشة على المواطنين. بالإضافة إلى ظاهرة عزوف المستثمرين الآخذة في التزايد، بعدما قام أغلب المستثمرين بنقل نشاطاتهم إلى الولايات المتحدة، وبالتالي انخفضت معدلات الاستثمارات وتقلصت فرص العمل وتراجعت قيمة العملة، ولهذا قد يضطر البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة.

كما جاءت استقالة تراس بعد أسابيع من الاضطرابات في الأسواق المالية بعد ميزانيتها المصغرة لخفض الضرائب، على إثر خطتها الاقتصادية تحت إشراف وزير المالية كواسي كوارتينج لخفض الضرائب بأي شكل كما سبق وأن تعهدت خلال حملتها الانتخابية، وهو الوعد الذي يكاد يكون السبب الأساسي لفوزها في الانتخابات على حساب ريتشي سوناك، لأنها استغلت معاناة المواطنين البريطانيين من غلاء المعيشة، في مقابل رفض سوناك المساس بالضرائب.

ففي إطار خطتها الجديدة، تعهدت تراس بتخفيض الضرائب لمن يتعدى دخله السنوي ١٤٥ ألف جنيه إسترليني إلى ٤٠ ٪ بدلا من ٤٥ ٪، وتقليل الضرائب على الشركات أيضا، كما كان من المخطط أن يتم تجميد فواتير الكهرباء عند حد معين لا تتخطاه.

وهي خطة اعتبرها متخصصون منقوصة، لأنها لم تتضمن كيف ستوفر الحكومة البريطانية الموارد المالية اللازمة مقابل فقدانها لمورد الضرائب بعد تخفيضها إلى هذا الحد بشكل مفاجئ، وبالتالي قد تبقي الحكومة أمام خيارين؛ إما طباعة الأموال أو الاستدانة، ولكن كلاهما سيفاقم الوضع أكثر، نظرا لأن ديون بريطانيا تخطت ٢ ترليون جنيه إسترليني. ولهذا عارض البنك الدولي تلك الخطة واعتبرها ” غير مكتملة “، كما انتقدها جو بايدن أيضا، ورآها ” خطة خاطئة “. بعدما وصل معدل التضخم في بريطانيا حوالي ١٠ ٪، وهو رقم لم تصل له بريطانيا منذ عقود.

وهربا من الانتقادات داخليا وخارجيا، أقالت تراس وزير المالية وعينت آخر بعد ساعات لمحاولة تهدئة الأسواق، والتخفيف من الهجوم الحاد الذي شنه حزب العمال ” المعارض “، وطالبها بالاستقالة ولكنها رفضت، واعتبرت نفسها ” مقاتلة، وليست انسحابية “. ولكن كان الفيصل، هو إقالتها لوزيرة الداخلية سويلا برافرمان، التي وضعت خطة لإخراج اللاجئين من بريطانيا لتخفيف الضغوط الاقتصادية على البلاد، في ليلة كانت فوضوية بعض الشئ، وجهت فيها اتهامات لبعض قادة حزب المحافظين بالتنمر على النواب لإجبارهم على التصويت لصالح الحكومة خلال التصويت على أحد مشروعات القوانين في البرلمان، وبسبب الهجوم الشديد عليها، والخطوات التي اعتبرها كثيرون فردية وغير مسئولة اضطرت تراس في الأخير إلى تقديم استقالتها بعد ٤٥ يوما من توليها المنصب.

خيارات محدودة:

يبدو أن الوضع الاقتصادي القائم لم يشجع كثيرين على خوض تجربة الترشح لرئاسة الوزراء، خاصة بعد استقالة رئيسين للوزراء خلال أسابيع فقط، ولهذا أصبحت خيارات مجلس المحافظين ضيقة جدا في الاختيار بين المرشحين. ويعد أبرزهم ريتشي سوناك، وزير المالية السابق في حكومة جونسون للترشح مرة أخرى بعد خسارته في جولة التصويت الأخيرة أمام ليز تراس، خاصة بعدما قوي موقفه بعد فشل ليزا تراس في إنجاح خطتها بشأن الضرائب، وثبتت صحة رؤيته هو، ولهذا يعتبر هو المرشح الأوفر حظا، خاصة وأنه ذو خلفية اقتصادية. ووفقا لتقديرات إعلامية، فإن ريتشي سوناك لديه أكبر عدد من الداعمين له، باعتباره صاحب المركز الثاني في الانتخابات الأخيرة، ومتفوقا في عدد الأصوات عن بقية المنافسين المحتملين، وحتى الآن، فإن فاز سوناك بالفعل فلن يكون الأمر مفاجئ.

وتنافسه بيني موردنت زعيمة الأغلبية في مجلس العموم، والتي كانت قد ترشحت أيضا في الانتخابات الأخيرة، والتي اكتسبت داعمين جدد بعد معارضتها الشرسة لليز تراس في البرلمان. كما يعتقد آخرون أن قائمة المرشحين قد تتسع لتضم وزير الدفاع بن والاس، ووزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان ووزيرة التجارة الدولية كيمي بادنوك يدرسون التقدم للمنافسة على المنصب.

ولكن الأمر المفاجئ حقا وأثار الجدل في الشارع البريطاني بشكل مضاعف، هو عودة اسم بوريس جونسون، الذي قطع عطلته فورا عقب استقالة تراس، في ظل ضغوطات يمارسها بعض أنصاره على مجلس المحافظين لإعادته إلى منصبه، رافعين شعار ” جونسون أم الانهيار “، وهي إشارات قد يكون الهدف منها التمهيد لعودة جونسون إلى المشهد. وإذا حدث ذلك، فستكون سابقة أخرى في التاريخ البريطاني إذا استعاد رئيس وزراء مستقيل منصبه مرة أخرى بعد أسابيع قليلة من مغادرة منصبه، وبعد موجة من الخلافات حول استمراره في منصبه من قبل الناخبين والبرلمان كليهما. في ظل وجود استطلاعات للرأي تفيد بأنه لا يزال يحظى بشعبية داخل حزبه، خاصة بعد دعمه لأوكرانيا.

ولكن يبدون أن أمر استعادة جونسون لمنصبه أمرا مستبعدا إلى حد كبير حتى الآن، لأنه قد يكون أمرا مثيرا للانقسام داخل حزب المحافظين، الذي أعرب عدد لا يستهان به من نوابه عن عزمهم اعتزال السياسة في حالة عودة جونسون مرة أخرى إلى الحكم، وما يزيد موقفه صعوبة أن التحقيق في قضية الحفلات لازال مستمرا معه حتى الآن.

زعامة مهددة:

بعد عقود من سيطرة حزب المحافظين على المشهد السياسي في بريطانيا، يتعرض حاليا لأزمة وضعته في حرج سياسي كبير قد يكلفه أغلبيته البرلمانية في الانتخابات المقبلة في 2024، لأن الحزب فشل في مرتين متتاليتين خلال فترة قصيرة في تقديم رئيس للوزراء يؤدي مهمته بنجاح، ويزداد الأمر صعوبة وإرباكا مع استغلال حزب العمال لذلك، الذي انتهز الفرصة فورا من أجل إلحاق هزيمة معنوية بحزب المحافظين، وهز صورته أمام الرأي العام البريطاني، وقد تؤشر إلي ذلك استطلاعات عدة للرأي في الأسابيع القليلة الماضية، التي تؤكد تراجع شعبية حزب المحافظين بعد الأزمات السياسية والاقتصادية المتكررة، والتي يعجز الحزب ورئيسه عن حلها، وأهمها أزمة الطاقة وغلاء المعيشة، التي من الممكن أن تستمر لأكثر.

لأن الحكومة البريطانية خلال العامين الأخيرين تعرضت لأزمات ضارية لن تستطيع التعافي منها بتلك السهولة، وخاصة على المستوى الاقتصادي، ويأتي على رأسها أزمة البريكست، مرورا بجائحة كورونا، انتهاءا بالأزمة الأوكرانية- لهذا فوضع حزب المحافظين لايزال متجها من سيء إلى أسوأ، وبالتالي فإن سوء اختيار رئيس الوزراء للمرة الثالثة على التوالي قد يكون سببا في خسارة مرجحة بشكل كبير في الانتخابات القادمة، إذا لم يجد جديد يأتي في صالح الحزب في الفترة القادمة.

وختاما، فإن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بريطانيا في عهد جونسون باتت تغطي على مميزاته بوجه عام، وهذا كله ساهم في سقوط هامته السياسية. أضف إلى ذلك، أن أنصار جونسون وموردنت متقاربون، وبالتالي فاستمرار الأخيرة في المنافسة سيصب في صالح سوناك، ولكن حال انسحبت موردنت فسيكون سوناك في مواجهة غير محسومة مع جونسون.

ولكن حتى هذا الافتراض نفسه مرهونا بترشح جونسون من الأساس، لأنه في حالة عدم ترشحه رسميا، فمن المرجح أن يكون سوناك، هو رئيس الوزراء البريطاني القادم.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى