الكتل المؤثرة: هل غيرت البرلمانات العربية من أدائها بعد 2011؟
د. أبو الفضل الإسناوي
تُحدِّد دراسة الأداء البرلماني مدى ديمقراطية البرلمان، وتمثيله لكل شرائح المجتمع سياسيًّا واجتماعيًّا، وتحدد أولوياته التي تسمح بتوقيته، ومدى إنجازه للوظائف التشريعية والرقابية على أعمال الحكومة بطريقة تلبي حاجات المواطنين.
وبالنظر إلى واقع البرلمانات في بعض دول الشمال الأفريقي (تونس ومصر والجزائر)، فإنه إذا كانت الثورات العربية في 2011 قد كشفت عن مدى ضعف أداء تلك البرلمانات في دولتي تونس والجزائر بالمقارنة بمصر، نتيجة اختلال في تركيبتها السياسية التي كانت تؤثر بشكل كبير في فشل الآليات الرقابية التي تُرتِّب مسئولية سياسية للحكومة.
إن التركيبة البرلمانية في بعض الدول العربية منذ 2011 كانت تسير دومًا في اتجاه تكريس أولوية الحكومة وتحصينها ضد أي رقابة فعلية يمكن أن تُمارَس من طرف السلطة التشريعية، هذا بالإضافة إلى أن سيطرة السلطة التنفيذية على عملية التشريع، من خلال المبادرة بمشاريع القوانين، وهو ما أفقد البرلمان اختصاصه الأصيل، وكشفت عن استمرار عدم فاعلية الأداء البرلماني، التي تعود-ولو بدرجة متفاوتة بين تلك الدول الثلاث- إلى مستوى النخبة التشريعية التي تمثل الأحزاب السياسية في المؤسسة التشريعية، والتي تُحدِّد قوتَها تلك الأحزابُ التي ظلت تصطدم بمجموعة من المعوقات، منها تنامي ظاهرة الانشقاقات داخلها، وتفشِّي ظاهرة انتقالات نوابها بين الكتل النيابية المتنافسة داخل البرلمان، رغم أن الثورات العربية جاءت بقوانين في الدول الثلاث تُمكِّنها من الاضطلاع بدورها.
أدوار مغايرة:
فالأدوار التي يؤديها البرلمان تتوقف على مكانته في النظام السياسي، والأطر الدستورية والقانونية التي تحدد طبيعة انتخابات أعضائه، وخصائصهم الشخصية، ومستوى الاستقرار داخل البرلمان بين الكتل النيابية وفي داخلها، وتوقعات الآخرين داخل المؤسسة التشريعية أو خارجها، وتعزيز دور المعارضة في المجال التشريعي، خاصةً منحها تمثيلًا مناسبًا في أجهزة البرلمان، وتمكينها من المشاركة الفعلية في الأشغال التشريعية.
إن المتابع لتأثير الثورات العربية في 2011 على برلمانات دول الشمال الأفريقي التي شهدت ثورات لإسقاط النظام الحاكم كتونس ومصر، والدول التي شهدت احتجاجات محدودة واحتواءً سريعًا كالجزائر؛ يتبين له أنها أعادت الاهتمام بالبعد المؤسسي للبرلمانات، والبناء الداخلي، وأثرت على سلوك النظام السياسي بسبب توسيع دساتير ما بعد الثورات العربية صلاحيات المؤسسات التشريعية، وتعديل حكوماتها القوانين المنظمة لعمل البرلمانات، وقوانين الأحزاب السياسية، والنظم الانتخابية، وهو ما كان له أثر واضح في تغيير النخبة البرلمانية، وبنية المؤسسات التشريعية فيها.
وبالتطرُّق إلى الوظائف التي يقوم بها البرلمان في الدول الثلاث، سواء بعد الثورات العربية أو قبلها، يتضح أن فاعلية الأداء البرلماني، في شق كبير منها، ما هي إلا انعكاسٌ لمستوى الأحزاب السياسية الممثلة فيه، سواء من حيث التوجهات والبرامج أو المواقف من جهة، أو من حيث فاعلية أداء النواب (النخبة التشريعية) الذين يمثلون هذه الأحزاب والمستقلين في المؤسسة التشريعية، وقدرتهم على طرح هذه الأفكار والدفاع عنها، خاصة أن المتتبع لأداء النخب التشريعية في برلمانات الدول الثلاثة بعد الثورات يلاحظ ضعف اقتراحات القوانين التي تقدمها للمناقشة مقارنةً بمشروعات القوانين التي تقدمها السلطة التنفيذية، وإن كان من أسباب ذلك –سواء بعد الثورات أو قبلها– تعقُّد الإجراءات المتعلقة بدراسة تلك الاقتراحات من طرف البرلمان نفسه، أو عدم برمجة أجهزة البرلمان لها ووضعها في أجندة عمل المجلس، أو تعرُّضها للسحب أو الرفض.
تركيبة متجددة:
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن النظم الانتخابية التي تلت الثورات العربية في دول الشمال الأفريقي، كان لها تأثير كبير في تشكيل وتكوين برلماناتها.
ورغم مستوى التغير الكبير في تركيبة برلمانات ما بعد الثورات في تلك المنطقة، وتوسيع الدساتير الجديدة أو المُعدَّلة وظائفها الرقابية أو التشريعية، فإن هذه المؤسسات التشريعية في دول الثورات وغيرها، لم تقم بالدور المطلوب والمحدد في الدساتير.
إن ما يمكن استنتاجه والإشارة إليه مما سبق، هو التأثير الواضح لتركيبة البرلمانات الثلاثة على أدائها الرقابي؛ حيث أن هناك علاقة عكسية في البرلمان التونسي بين استقرار الكتل النيابية وعدد الأسئلة المقدمة للحكومة؛ فقد كان العدد الأكبر من الأسئلة الموجهة للحكومة من 2014–2019، خلال أدوار الانعقاد الثلاثة عام 2017 الذي شهد انشقاقات وانقسامات في الكتل النيابية.
كما يُلاحَظ أيضًا تفوق أحزاب المعارضة على ائتلاف تشكيل الحكومة المكون من حزبي نداء تونس والنهضة في عدد الأسئلة الموجهة للحكومة؛ فنسبة المعارضة من الإجمالي 40%.
وفيما يتعلق بتأثير تركيبة البرلمان الجزائري على استخدام الآليات الرقابية، فقد لوحظ سيطرة حزبي الائتلاف الحكومي على آلية طرح الأسئلة على الحكومة؛ حيث بلغت نسبة أسئلتهما 52% من إجمالي عدد الأسئلة المقدمة، في حين تراجعت نسبة الأسئلة المقدمة من المعارضة بعد الثورات إلى 3.2% من الإجمالي.
وهذا يشير إلى أن البرلمان الجزائري فيما يتعلق بطرح الأسئلة على الحكومة، اتخذ اتجاهًا معاكسًا للبرلمان التونسي الذي شهد تفوقًا للمعارضة على حزبي الائتلاف الحكومي.
أما تأثير تركيبة البرلمان المصري على استخدام الآليات الرقابية، فالواضح أن عدم التوازن بين الكتل النيابة، خاصةً بعد تزايد عدد ائتلاف دعم مصر إلى 365 نائبًا بنسبة 61.24% من إجمالي أعضاء المجلس، بالإضافة إلى الانقسام الذي حدث في حزب المصريين الأحرار أثناء دور الانعقاد الثاني، وافتقاد تكتل 25–30 الذي يضم 20 نائبًا ويمثل المعارضة، للخبرة والحنكة السياسية، كل ذلك أدى إلى تراجع الدور الرقابي لصالح الدور التشريعي، وعدم قدرة نواب المعارضة على استخدام آلية الاستجواب.
معوقات باقية:
إن ما يمكن ملاحظته حول الأداء البرلماني في الدول الثلاثة (تونس ومصر والجزائر)، أنه يعاني من عدة معوقات عامة وعوامل لم تكن من تأثير الثورات، خاصة وأنها مرتبطة بسلوك الكتل النيابية في برلمانات تلك الدول الثلاثة، أو بمكانة البرلمان في النظام السياسي لكل دولة، أو بكيفية تأمين دساتيرها وقوانينها لدور المعارضة في مواجهة الأغلبية، إن كان الحال أفضل في مصر مقارنة بدولتي تونس والجزائر.
ومن ثم نظرًا إلى التأثير السلبي المباشر أو غير المباشر لتلك المعوقات على الأداء البرلماني لتلك الدول، فإن تفعيل تفعيل الأداء في برلمانات دول تونس ومصر والجزائر، يتطلب إعادة النظر في النظم واللوائح الداخلية في برلمانات تلك الدول، خاصةً فيما يتعلق بكيفية توزيع الكتل النيابية على أجهزة البرلمان.
في النهاية، يمكن القول إن تطوير أداء البرلمانات في الدول الثلاثة يتطلب –بالإضافة إلى علاج الخلل في المؤسسات الحزبية، وتعديل بعض مواد اللوائح الداخلية المُنظِّمة لعمل تلك البرلمانات- إلى الدعم الفني للنواب الجدد من خلال ربط البرلمانات بمراكز متخصصة بالدراسات البرلمانية، وزيادة عدد المستشارين في اللجان النوعية والمتخصصة من أجل إعداد مشروعات القوانين، ومساعدة النواب في الاستشارات المتعلقة بالقوانين المالية والموازنة التي تشكل مناقشتها وفهمها عبئًا كبيرًا على النواب، خاصةً غير المتخصصين.