ماذا بعد ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة إلى روسيا؟
أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في الثلاثين من سبتمبر2022، وبحضور نواب البرلمان وممثلي الأقاليم المنضمة حديثاً، عن ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى الاتحاد الروسي رسمياً؛ هي: “دونيتسك، ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا”، بعد استفتاءات جرت في الفترة من الجمعة 23 سبتمبر وحتى الثلاثاء 27 سبتمبر2022، الأمر الذي يشكل تحولاً خطيراً في مسار الحرب في أوكرانيا، فما هي عوامل الخطورة التي تكمن وراء هذا الإجراء؟، وما هي التداعيات المترتبة عليه، خاصة في ضوء ردود الأفعال الغربية المنددة والرافضة لهذا الضم؟
استراتيجية الضم:
استراتيجية الضم، هي استراتيجية تتم على خطوات متتابعة، تبدأ بدعم المعارضة والموالين لموسكو في المناطق الانفصالية مع جاراتها من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ثم الاعتراف باستقلال تلك المناطق، وصولاً إلى الاستفتاء على الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وقد سبق لها وأن أقدمت موسكو على هذه الخطوة عام 2014؛ عندما ضمت شبه جزيرة القرم بعد إجراء استفتاء مماثل.
وتلجأ روسيا إلى ضم مناطق أوكرانية إلى أراضيها، كهدف استراتيجي؛ حيث يعتبر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أن أوكرانيا جزء من الأمة الروسية، وإن السيطرة على الأراضي الأوكرانية، أمر وجودي بالنسبة للأمن الروسي، وأن الوضع الحالي نتج عن فرض اتفاق غير عادل على روسيا، مع انتهاء حقبة الحرب الباردة”، ودائما ما يؤكد “بوتين” على ذلك بقوله”سنستعيد كافة أراضينا”.
ومن الواضح، من تصريحات المسئولين الروس أنهم ماضون في مخطط ضم أراضي أوكرانية جديدة، بالرغم من الرفض الدولي لاستراتيجية الضم التي تتبعها موسكو؛ إلا أن الأخيرة ستمضي في هذا الاتجاه إذا ما سنحت الظروف. وتأتي عملية الضم التي نفذتها روسيا؛ خطوة مهمة في طريق موسكو المتعثر نحو كييف، وتعزيزاً لأوراق الضغط التي تملكها روسيا؛ حيث يرى الرئيس “بوتين” أن الغرب لا يمكنه مواصلة فكرة الحد من انتشار السلاح النووي على مستوى العالم، ولا تمرير قرار من مجلس الأمن الدولي، ولا الحصول على كمية كافية من الغاز، دون تعاون كامل من روسيا”.
ردود أفعال متعددة:
لم يتوقف الرفض والاستنكار الشديدين على الدول الغربية وحدها، بل امتد إلى العديد من دول العالم شرقًا وغربًا، فقد أعلن الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، أن أوكرانيا ستوقع طلب انضمام عاجل إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأكد أنه إذا استمر الكرملين في الضم، فإن أي مفاوضات مع بوتين ستكون مستحيلة، وأن كييف لن تقبل أبدا بالسيطرة الروسية على أراضيها ودعا الغرب إلى توفير أسلحة أكثر لمحاربة القوات الروسية، وعلّق الرئيس الأميركي “جو بايدن” بأن موسكو تخالف القانون الدولي، وهدد بوتين بأنه: “سيدفع الثمن باهظا”، وأعلن عن تقديم مساعدة عسكرية تبلغ قيمتها 21 مليار دولار، وأعلن المتحدث باسم الخارجية الأميركية، “صامويل وربيرغ” إدانة بلاده “بشدة” إعلان روسيا ضم أقاليم أوكرانية، لن توقفنا عن الاستمرار في تقديم المساعدة الأمنية والدفاعية والإنسانية والاقتصادية لأوكرانيا حكومة وشعبا”.
فيما قال وزراء خارجية مجموعة السبع، في بيان مشترك، أن بلادهم “لن نعترف أبدا بقرارات الضم الروسية لأقاليم أوكرانية، وسوف نكثف الضغط الاقتصادي على روسيا”، أما الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيريش”، وصف الأمر بأنه “تصعيد خطير” من شأنه أن يقوض آفاق السلام، كما قال الاتحاد الأوروبي الجمعة 30 سبتمبر2022، إنه “لن يعترف مطلقا باستفتاءات غير قانونية أجرتها روسيا كذريعة لانتهاك استقلال أوكرانيا”.
وفي رد فعل سريع على عملية الضم الروسي للأراضي الأوكرانية، أعلنت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية فرض المزيد من العقوبات المعززة للعقوبات السابقة على روسيا، وكذلك على الدول والكيانات والشركات المتعاونة والداعمة لموسكو في تلك الحرب، وهو ما يأتي في إطار مساعي محاصرة روسيا اقتصادياً، والتي قد تمتد إلى تأميم الأصول الروسية في الغرب، فضلاً عن معاقبة الدول التي تتعامل مع موسكو أو تلك التي تخرق العقوبات، وقد يلجأ الغرب إلى افتعال مشاكل في منطقة القوقاز، لممارسة المزيد من الضغط على روسيا.
لكن الواضح أن السلوك الروسي لم يكترث كثيراً للعواقب وردود الأفعال الغربية والدولية، بل بدا مهددًا للقوة الأمريكية، التي وصفها “بالمتغطرسة”، ويرى “بوتين” أن واشنطن التي تحاصر العالم أجمع، عليها أن تبتعد عن الحدود الروسية وتقليص وجودها في أوروبا الشرقية، كما وقد سبق لروسيا وأن اختبرت ردة الفعل الغربي بشأن ضم أراضي أوكرانية، عندما ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014، لكن يبدو أن عملية الضم هذه المرة لن تكون كسابقتها، فالقوات الأوكرانية تدرك جيداً خطورة مهاجمة تلك المناطق المنضمة لروسيا.
مخاطر عملية الضم:
(&) لا شك أن عملية الضم؛ ستغير الكثير من الحقائق على الأرض، وتقلل من احتمالات التسوية التفاوضية، كونها ستفرض تغير جذري في العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وسيكون الحديث عن حرب صريحة بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث ستكون القوات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية بالفعل، لا على حدودها، مما قد يعجل بمواجهات عسكرية مباشرة بين الجانبين، إذ أن روسيا ستصور الحرب حينها على أنها دفاعاً عن النفس ضد قوات معتدية؛ سواء كانت أوكرانيا أو من يقف خلفها.
(&) أن عملية الضم هذه المرة؛ تمهد الطريق لمرحلة جديدة أكثر خطورة للحرب في أوكرانيا؛ إذ أنها ستضفي”شرعية روسية”، في اللجوء إلى كافة وسائل القوة لحماية الأراضي الروسية والسكان الروس،بما فيها الأسلحة النووية، وهو أمر أكد عليه الرئيس “بوتين” بقوله: أن “سكان أقاليم الأربعة؛ سيظلون من المواطنين الروس إلى الأبد”.
(&) تغير العقيدة النووية الروسية؛ حيث وقع الرئيس الروسي “بوتين”، في عام 2020، مرسوماً بتحديث العقيدة النووية الروسية بما يسمح باستخدام الأسلحة النووية “في حالة العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية، بما يهدد وجود الدولة، أوفي حال استخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل تجاه الأراضي الروسية أو أراض حلفائها.
(&) يبدو واضحاً من تصريحات الرئيس الروسي “بوتين”، أن الحرب في أوكرانيا -المندلعة منذ سبعة أشهر، ولا زالت لم تحسم بعد-أصبحت تمر بمعادلة “صفرية” -أو هكذا تبدو- واستمرار الغرب في الضغط على الرئيس “بوتين”؛ سيدفعه إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية أكثر خطورة، وربما متهورة؛ لا سيما وأن “بوتين”، يرى أن الغرب قد تجاوز كل الخطوط في سياسته المعادية لروسيا، وبالتالي فهو أمام عدو يسعى للقضاء عليه، وهو ما لم يسمح به، وفي حال ما نفدت خياراته المتاحة؛ لن يتردد في إشعال حرب نووية، وهو ما أكد عليه خلال خطابه،بأن ذلك “ليس خدعة”،وهو ما حذرت منه المستشارة الألمانية السابقة، “أنجيلا ميركل”، والتي صرحت بـ “إن على القادة السياسيين أن يأخذوا كلام بوتين الخاص باستخدام السلاح النووي على محمل الجد”.
(&) يبدو من الواضح أيضاً أن الرئيس الروسي بوتين يسعى إلى إعادة رسم حدود الاتحاد الروسي مجدداً؛ حتى لو اضطر إلى التهديد باستخدام الأسلحة النووية، والذي استفز الإدارة الأمريكية، والتي ردت: بأنه “بوتين” إذا أقدم على تنفيذ تهديده، فإن ذلك سيقابل برد قاس، وتوعّدت بتدمير جيشه، وربما تدميره هو شخصيًا، وإن كانت الولايات المتحدة، التي أرادت إنهاك روسيا عسكرياً واقتصادياً في الحرب مع أوكرانيا، لن تجازف بدخول حرب نووية ضد روسيا من أجل أوكرانيا، لأنها بالتأكيد حرب لها تكلفتها الاستراتيجية على كافة المستويات، وربما لها تكلفة وجودية.
ولأن الضرورة تقدر بقدرها، واستناداً إلى ما صرح به الرئيس “بوتين” من قبل، “من إن طموحات أوكرانيا للانضمام إلى الناتو ستعادل “تهديداً مباشراً بشن هجوم ضد بلادنا”، ولعل ذلك يفسر عدم قبول الطلب الأوكراني للانضمام إلى الناتو في الوقت الحالي، حيث أكد مستشار الأمن القومي الأميركي “جيك سوليفان”، أن إجراءات انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو جاءت في وقت غير مناسب، فالوقت ليس مناسبا لقبول انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، كما أكد الأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبرغ” أن الناتو ليس طرفاً في الأزمة أوكرانية ويبقى تحالفاً دفاعياً.
مسار إجباري:
لقد بات من الواضح أن الحل العسكري في أوكرانيا يبدو مستحيلاً، فروسيا لم تستطع إحراز نصر سريع وخاطف “كما كانت ترغب”،منذ بدأت العملية العسكرية الخاصة في الرابع والعشرين من فبراير2022، ولا يمكنها تحقيق أهدافها؛ من دون هزيمة أو استسلام أوكرانيا بشكل كامل، وهو ما لم تقبله الولايات المتحدة،في الوقت ذاته لا يمكن لأوكرانيا الصمود وحدها في وجه الهجوم الروسي المستمر، كذلك من غير المرجح أن تنتهي الحرب في أوكرانيا باستسلام أحد الطرفين، في ظل القدرات العسكرية الضخمة لروسيا، والتي تمتلك ترسانة نووية كبيرة، وكذلك القوى الغربية التي تدعم أوكرانيا بكل قوة؛ لا سيما الولايات المتحدة، القوة الأولى في العالم.
كما إن استمرار روسيا في مساعيها لضم أراض أوكرانية؛ يضع القوى الغربية في مأزق حقيقي، فحتى وإن فشلت موسكو في حسم الحرب لصالحها، تكون قد نجحت في فرض رؤيتها على الغرب، الذي قدم الكثير من الدعم لأوكرانيا منذ بداية الحرب، الأمر الذي سيدفع بالمواجهة الحتمية، بالرغم من محاولات تفاديها حتى الآن.
وبالتالي يصبح طرفي الصراع مضطران إلى الاتجاه نحو مسار إجباري؛ إما القبول بالتفاوض، أو دفع الأمور للانفجار، ما يجعل السيناريو الأفضل لروسيا وأوكرانيا والغرب والعالم؛ يكمن في القبول بالتفاوض الجاد، والذي يساعد في نزع فتيل حرب عالمية جديدة، والتي يرتهن انفجارها في أية لحظة؛ إما بمهاجمة الأراضي الروسية أو القبول بعضوية أوكرانيا في حلف الناتو، فكلا الاحتمالين سيدفعان باستخدام أسلحة لم تعهدها الحروب الحديثة، لا سيما وأن رد الفعل النووي لن يسعف الملايين من سكان العالمي يروه، حتى أولئك الذين اتخذوا قرار استخدامه!!
بالأخير، نحن أمام حرب تتواصل ومخاوف تتزايد، ولم يعد ثمة جدال في أن الحرب الجارية بأوكرانيا تمثل نقطة فاصلة للنظام الدولي، ونقطة تحول بالغة الأهمية والحساسية في خريطة القوى الدولية، لا سيما وأن ما نراه من صراع يتصاعد يوماً بعد آخر، ومع تزايد مخاطر استخدام الأسلحة النووية، تتعمق المخاوف على كافة المستويات، ولعل ذلك هو ما أقره رئيس القيادة الاستراتيجية الأمريكية “تشارلز ريتشارد” بأن احتمال نشوب صراع نووي مباشر بين بلاده وروسيا أو الصين أمر حقيقي بالنظر لتصريحات كل الأطراف الدولية وحجم التحشيد والتصعيد المضاد، والذي يدفع بالقول بأن المواجهة الكبرى قادمة لا محالة، حتى إن تأخرت قليلاً، لكنها تنتظر الضغط على ذر الإشعال، وهو ما لا يمكن التكهن بنتائجها مطلقاً.
من هنا، فإن بذل الجهود والمساعي الحثيثة لدفع الأطراف إلى التفاوض، والسعي الجاد لخفض التصعيد، ووقف التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وتقليل الدعم العسكري الغربي المقدم لأوكرانيا، وحث الصين – باعتبارها طرف مقبول لدى الجانبين- على قيادة مساعي دولية للوصول لحلول دبلوماسية للأزمة، لا سيما وبكين لا تزال تحافظ على نهجها المتوازن بين شراكتها الاستراتيجية مع روسيا، الالتزام بمبادئ عدم التدخل وسيادة الدولة، وتجنب المزيد من الضرر لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو ما يمنحها فرصة جوهرية للقيام بجهود دولية لوقف تحول الحرب في أوكرانيا، فهل لا يزال هناك من حل لوقف الحرب في أوكرانيا؟ وهل بالإمكان تصفير الأزمة الروسية الأوكرانية؟، هذا ما لا يمكن التنبؤ به، بل ستجيب عنه الأيام وربما الشهور القادمة لا محالة!!