تأثير الحرب الأوكرانية على خريطة التوازنات الأوروبية

مع دخول الحرب الأوكرانية شهرها السابع، وفي ظل تأزم الوضع الحالي بين روسيا والغرب، بعد كم العقوبات المفروضة على روسيا، وقطع الأخيرة لإمدادات الطاقة عن أوروبا، كان من المتوقع أن يترك هذا الوضع برمته تداعياته على معادلة التوازنات بين دول القارة الأوروبية، من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتعتبر استعادة ألمانيا لقوتها العسكرية، والتنافس الجيوسياسي بين دول القارة العجوز في عدة بقاع من أهم المؤشرات على ذلك.
وفي هذا الإطار، ثمة مجموعة من التساؤلات تطرح نفسها بقوة على الساحة السياسية، أبرزها ما مدى تأثير الحرب الأوكرانية على توازن القوة في أوروبا؟، وكيف سيؤثر التغير المحتمل في خريطة التوازنات الأوروبية على وحدة التكتل؟.
تغير محتمل:
كان من المنتظر أن تترك الحرب تأثيراتها على خريطة التوازنات الأوروبية من عدة نواحي، بعد أن عمدت كل دولة أوروبية إلى البحث منفردةً عن بدائل تكفل لها الاستقرار اقتصاديا وعسكريا، وكان أهمها:
(*) التوازنات الاقتصادية: فبريطانيا مثلا، اتخذت خطوات استقلالية أكثر في إطار خروجها من الاتحاد الأوروبي،حيث قامت بالتخلص التدريجي من الغاز والنفط الروسيين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، ووفقا لمكتب الإحصاء الوطني؛ انخفضت الواردات القادمة من روسيا إلى بريطانيا من ٤٩٩ مليون جنيه إسترليني في فبراير الماضي حتى وصلت إلى الصفر للمرة الأولي، وفقا للقرار المشترك مع الولايات المتحدة بوقف استيراد الطاقة الروسية. كما تعتمد على الإنتاج المحلي أيضا، الذي زاد خلال النصف الأول من العام الجاري بنسبة ٢٦٪ عن العام الماضي، هذا إلى جانب الواردات القادمة من النرويج والولايات المتحدة وقطر. وعليه، تعتبر بريطانيا هي الأكثر اتزانا من الناحية الاقتصادية فيما يخص ملف الطاقة، ولهذا اتخذت قرار وقف استيراد الطاقة الروسية بأريحية أكثر من نظيراتها من الدول الأوروبية.
أما عن فرنسا، فهي تستورد حوالي ربع احتياجاتها من الغاز من روسيا، وحاليا وبعد قرار الاتحاد الأوروبي حظر استيراد الطاقة الروسية بحلول العام القادم، والقرار الروسي الأخير بوقف صادرات الطاقة إلى أوروبا، أصبح على فرنسا الاعتماد على بدائل جدية، ولهذا اتجهت إلى الخليج ( السعودية والإمارات )، والجزائر بعد زيارة ماكرون الأخيرة إلى الرئيس تبون، ولكن على ما يبدو أن فرنسا مقبلة على أزمة طاقة عاتية رغم بحثها الحثيث عن بدائل، وقد يؤشر إلى ذلك التحذيرات المتتالية للحكومة الفرنسية بترشيد الاستهلاك، والاستعداد لاحتمالية انقطاع الكهرباء ساعتين خلال اليوم.
وألمانيا، التي تعتبر ضمن أكثر الدول الأوروبية تضررا من الحرب الأوكرانية، لأنها تعتمد على روسيا في تلبية ما يقارب من نصف احتياجاتها من الطاقة (٤٩٪)، بل وتجاوزت النصف خلال العام الماضي، وهي النسبة التي فقدتها الآن بعد وقف روسيا لتصدير الطاقة إلى ألمانيا، الذي تلاه وقف التصدير إلى أوروبا بأكملها. وبالرغم من سعي برلين إلى الاعتماد على الغاز لدى موردين آخرين، مثل مصر وقطر والولايات المتحدة والنرويج، إلا أنهلا يستطيع منصف إنكار ما قد يلحق بالاقتصاد الألماني من تداعيات سلبية، رغم أنه الأقوى في القارة،خاصة وأنها _ برلين _ لا تملك إمكانية إنتاجه محليا في ظل تواجد حزب الخضر المناصر للبيئة ضمن الائتلاف الحاكم.
(*) التوازن العسكري: منذ اندلاع الحرب الأوكرانية بدأت الدول الأوروبية الاهتمام بشكل مضاعف بتكوين قدراتها العسكرية؛ فقد دعا ماكرون في يونيو الماضي إلى زيادة حجم الإنفاق العسكري لبلاده، وتعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية على خلفية الحرب الأوكرانية، وأعلنت الرئاسة الفرنسية عن وصول الإنفاق العسكري الفرنسي في عام ٢٠٢٥ إلى ٥٠ مليار يورو، كما سترتفع ميزانية وزارة الجيوش مرة أخرى في عام ٢٠٢٢ إلى ٤٠,٩ مليار يورو، وفقا لشبكة بي إف إم تي ڤي، ومونت كارلو الدولية.
ووفقا لتقرير لصحيفة بوليتيكو، أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون عن زيادة الإنفاق على الدفاع بواقع ٢ إلى ٢,٥ من الناتج المحلي الإجمالي في غضون ٨ سنوات، كما أكد أنها نسبة مقترحة وليست نهائية، بل وقابلة للزيادة، وذلك بعد كم الانتقادات التي طالت الحكومة البريطانية بسبب التخفيضات في الميزانية العسكرية، وكان بن ولاس وزير الدفاع البريطاني أبرز المنتقدين. إلا أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان ميزة مهمة لا تتوفر في ألمانيا، وهي العضوية الدائمة في مجلس الأمن.
كما وافق البرلمان الألماني على تأسيس صندوق خاص لزيادة الإنفاق الدفاعي بقيمة ١٠٠ مليار دولار، وتحديث الجيش الألماني، كما تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز بتخصيص ١٠٠ مليار يورو أخرى للإنفاق العسكري هذا العام فقط، كما تعهد بالتزام الحكومة بزيادة النفقات الدفاعية لتصل إلى ٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول ٢٠٢٤، أي بنحو ٧٠ مليار يورو سنويا، كما أعلن شولتز عزمه تكوين جيش ألماني ” سيكون هو الأقوى في أوروبا “. في تحول واضح في السياسة الألمانية، التي لم تولاه تماما كبيرا بالإنفاق العسكري، أو تطوير أنظمتها الدفاعية أو الهجومية منذ الحرب العالمية الثانية.
(*) توازنات استراتيجية: بالإضافة إلى ما سبق، بدأت دفة التقاربات الأوروبية متشابهة بعض الشئ، حيث توجه معظمها نحو القارة الأفريقية أو منطقة الخليج في توقيت متقارب؛ فقد عمل ماكرون على استعادة التوازن للتواجد الفرنسي التاريخي في القارة الأفريقية، بعدما اهتزت صورة باريس عقب الانسحاب من مالي، لتحل محلها قوات فاجنر الروسية،ولهذا قام ماكرون بزيارة الكاميرون وبنين وغينيا بيساو.
وكان من المفارقة أن سبقت تحركات ماكرون جولة للمستشار الألماني أولاف شولتز إلى القارة، وشملت النيجر والسنغال ( منتجتان للنفط والغاز )، واختتمها بزيارة إلى جنوب أفريقيا، أكد خلالها على أهمية الاتصالات مع السودان والصومال، كما قد تساعد ألمانيا في حصول أفريقيا على مقعد في قمة العشرين، حيث يصل الناتج المحلي الإجمالي للقارة ٢,٦ مليار دولار سنويا، بناءا على ضغط من الرئيس السنغالي ماكي سال.
في التوقيت الذي بدأت فيه بريطانيا أيضا تحاول تعويض تجاهلها للتراث الكولونيالي، حيث نجحت بريطانيا في توقيع اتفاقيات تجارية مع ٦٠ دولة، ٢٠٪ منها من القارة الأفريقية، وتعتبر المؤسسة البريطانية للاستثمار الدولي ( بي إل إل ) من أبرز المؤسسات في هذا الشأن، وتدير المجموعة أصولاً بقيمة 9.5 مليار دولار ما بين آسيا وأفريقيا، بواقع 60% منها في أفريقيا. كما بدأت الدول الثلاث في خصم الأزمة الأوكرانية التحرك نحو الدول الخليجية، لتعويض نقص إمدادات الطاقة الروسية، وبالتحديد السعودية والإمارات وقطر.
واستنادا لما سبق، يتضح أن كبرى الدول الأوروبية لا تريد لأخرى أن تكون لها أفضلية سياسية أو اقتصادية أو عسكرية علي الأخرى.
تنافس أم وحدة؟:
بعد الحرب الأوكرانية، أصبحت دول القارة الأوروبية أمام تحدٍ صعب للغاية، ينطوي على ما إذا كانت الدول الأوروبية ستستجيب لمتطلبات التكتل، التي أهمها العمل المشترك والوحدة التي ترغبها الشعوب الأوروبية تحت لواء الاتحاد الأوروبي، أم أنها ستتفرغ لسياسة التنافس السياسي والاقتصادي، وفكرة الزعامة الأوروبية ؟. أي هل ستنحاز دول القارة العجوز إلى المبادئ الأوروبية ( الوحدة ) أم لسياسة المصالح التي فرضتها أجواء الحرب؟.
لا يمكن الجزم في الإجابة على مثل هذه الأسئلة في الوقت الراهن، ولكن يمكن القول أنه بدأت تثار الشكوك حول فعالية وحقيقة الوحدة الأوروبية، فقد اعتبر البعض أن مغازلة ألمانيا وبريطانيا للدول الأفريقية جاءت استغلالا لخفوت الدور الفرنسي التاريخي في القارة، محاولين الاستفادة من دول القارة وخيراتها على كافة الأصعدة.
هذا دون إغفال محاولات الوساطة في الأزمة الأوكرانية لمنع نشوبها منذ البداية، وتسابق الدول الأوروبية لتقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف ومحاولة تصدر المشهد قبل الحرب، رغم أن أوروبا تعلم أن مفتاح الحل يكمن بصورة أكبر لدى واشنطن وأوكرانيا وليس روسيا. كذلك الخلافات الأوروبية حول العقوبات على روسيا، خاصة فيما يتعلق بالحزمة السادسة من العقوبات على روسيا، التي تقضي بحظر استيراد الطاقة الروسية بحلول العام الجديد، والاعتراض أيضا على مشروع قرار يقضي بوقف تأشيرات الروس إلى أوروبا.
وليس بخافٍ أيضا التنافس في سياسة التحالفات والتقاربات، فقد تحاول ألمانيا استغلال أزمة الثقة الفرنسية تجاه واشنطن بعد أزمة الغواصات للتقارب مع واشنطن، خاصة بعدما استعادت الاهتمام بالقدرات العسكرية، وقدمت الدعم إلى كييف سياسيا وعسكريا بقوة، بما يخالف ما هو متعارف عليه في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، والأمر نفسه بالنسبة إلى لندن، التي تستند إلى دعم واشنطن، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فقد بدا جليا خلال الفترة الأخيرة التناسق في المواقف بين لندن وواشنطن؛ في الموقف من الأزمة الأوكرانية، وتحالف أوكواس بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ( صفقة الغواصات الأسترالية )، خاصة عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي.
ومن جهة أخرى، سارعت ألمانيا بإعلان وقفها إرسال أسلحة إلى كييف على لسان وزيرة الخارجية، بالتزامن مع المحاولات الفرنسية لمغازلة موسكو مرة أخرى، خاصة بعد الاتصال الهاتفي بين ماكرون وبوتين على خلفية السيطرة الروسية على محطة زابوروجيا النووية الأوكرانية.
وعليه، يمكن اعتبار المواقف الأوروبية بأنها محكومة باعتبارات المصلحة الفردية بعض الشئ، التي اقتضتها التهديدات الأمنية والاقتصادية، بعد محاولة كل دولة الاستفادة وفقا لوجهة نظرها هي، دون النظر إلى مصالح المشتركة التي تربطها بالدول الأوروبية الأخرى، بل لتجنب الاحتجاجات الشعبية في البلدان الأوروبية، وإنقاذ الأنظمة السياسية القائمة في كل واحدة منها على حدى. إلا أن ذلك أيضا لا يعني الاستغناء عن الاتحاد الأوروبي، أو تجاهله، أو تجاهل المكاسب الفردية لكل دولة، والتي قد تتحقق أيضا من توحيد الجهود في إطار التكتل، ولهذا وافقت دول الاتحاد الأوروبي على ما أعلنته أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أن التكتل يعتزم زيادة إنفاقه العسكري 200 مليار دولار في الأعوام المقبلة. وأشارت أيضاً إلى أن الاتحاد الأوروبي يعتزم لاحقا وضع قواعد جديدة لضمان إعفاء المشتريات العسكرية المشتركة من ضريبة القيمة المضافة.
وإنما يعني تحقيق أقصي استفادة ممكنة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، خاصة وأن الدول الأوروبية من أكثر المتضررين جراء الحرب. أضف إلى ذلك، أن الدول الكبرى في القارة، لا تريد انفراد إحداهما بزعامة القارة في الفترة القادمة على حساب البقية، وهي ظاهرة طبيعية لدى الدول، لا تستطيع شعارات الوحدة الأوروبية إنكارها مهما ذاع صيتها.
خاصة وأن هذه الفرضية قد تأكدت في وقت سابق خلال جائحة كورونا، حينما انكفت كل دولة على نفسها، ولم تمد يد العون إلى الدول الأخرى بما يكفي لمساعدتها لتخطى الأزمة، وأقوى دليل على ذلك ما حدث مع إيطاليا، التي بلغت فيها أرقام الإصابات والوفيات أرقاما قياسية، إلا أنها لم تتلق المساعدة والدعم المتوقع من شركائها الأوروبيين، حتى خرج عدد من المسئولين الإيطاليين وأعربوا عن أسفهم حيال الموقف الأوروبي.
وأخيرا، ورغم الإقرار بأن الحرب الأوكرانية قد يكون لها تأثير ملحوظ على خريطة التوازنات الأوروبية، وبغض النظر عن سياسة التقاربات الأوروبية مع الخارج، كل دولة على حدى، لم تكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا السبب الأساسي في زيادة التسلح في القارة الأوروبية مؤخرا.
فوفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ازدادت مشتريات الأسلحة في القارة الأوروبية بنسبة ١٩٪، في الوقت الذي انخفضت فيه تجارة الأسلحة على مستوى العالم بنسبة ٤,٦ ٪ في الفترة بين ٢٠١٧ وحتى ٢٠٢١، أي قبل الحرب الأوكرانية ببضع سنوات، وهو ما يثبت زيادة التوترات في أنحاء القارة، حتى ولو كانت غير معلنة. كما أوضح إيان أنتوني مدير برنامج الأمن الأوروبي في المعهد، أن هذه الأرقام قد تعكس ردة فعل القارة أولا على استعادة روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، ثم العملية العسكرية في أوكرانيا.