كيف تفكر الحكومة التركية في مستقبل ليبيا؟

في إطار التحول الواضح في السياسة التركية تجاه دول وملفات المنطقة، لم تكن ليبيا استثناءا، فقد استضافت أنقرة في أواخر شهر يوليو الماضي رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي خالد المشري ونائبه عبدالله اللافي، في نقلة شهدها الموقف التركي تجاه الشرق الليبي، بعدما كانت تدعم حكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة.

وخلال الآونة الأخيرة، تعاود أنقرة الظهور مجددا، وبقوة، على الساحة الليبية، ساعية لاستكمال الدور الذي رسمته لنفسها (الوسيط) منذ الأزمة الأوكرانية، وهو وفقاً للمقربين، يعتبر سعياً لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، من أجل إيجاد حل للأزمة السياسية الراهنة.

وتأسيسا على ذلك، يحاول هذا التحليل رصد أهم التطورات في الموقف التركي تجاه الملف الليبي، وتوضيح ما إذا كانت أنقرة قد حددت وجهتها المقبلة في ليبيا في إطار التغير الكبير في سياستها الخارجية مؤخرا، ومدى ارتباط ذلك بالتوجهات الدولية في ليبيا.

موقف مغاير:

بدا واضحاً أن التحول الذي شهده الموقف التركي، هو في الأصل جزءا من تحول الموقف السياسي التركي برمته تجاه دول وملفات بعينها منذ مجيء إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، وعليه حاولت أنقرة تغيير سياساتها في ليبيا بعض الشئ، وبغض النظر عن الهدف من هذا التحول، هل هو محاولة إلى الوقوف بجانب الطرف الذي أصبح في موقف أقوى بما يخدم مصالح أنقرة، وهو باشاغا، وإن حدث؛ قد يكون ذلك بناءا على إدراك تركي بأن الغرب تخلى عن الدبيبة بعد أن اختار مجلس النواب حكومة أخرى، وبذلك لا يتوقع من أردوغان دعم حكومة باتت فرصها أقل بعد تخلي الغرب عنها، بعد أن تم تعيين حكومة بديلة لها أيا كانت خلافاته معها.

أم أن موقف أردوغان، مجرد إعادة تموضع في ليبيا، والتخلي عن سياسة الانحياز لطرف بعينه، والعمل على اتخاذ موقف متوازن من جميع أطراف الأزمة (الشرق والغرب والإخوان)، من أجل تعظيم منافع أنقرة، والبقاء أيضا ضمن أي لعبة سياسية دولية أو داخلية جديدة في ليبيا، خاصة بعد أن عاود الملف الليبي الظهور مجددا على الساحة السياسية، وعاد الحديث عن انتخابات قد تجرى، خاصة بعد أحداث القتال الأخيرة.

ولكن رغم ذلك، لا يمكن إنكار وجود محفزات دفعت الساسة الأتراك لتعديل سياسة تركيا في ليبيا، فقد أراد أيضا أردوغان مقابل دعمه للأطراف في الشرق الليبي الموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة بين تركيا وليبيا، وقد نجح أردوغان في ذلك.

أضف إلي ذلك، أن سياسة التهدئة مع مصر والإمارات، وكذلك روسيا، فرضت على تركيا اتباع استراتيجية مغايرة تماما تجاه الشرق الليبي، على خلاف ما عهدناه عن الموقف التركي تجاه ليبيا، وبالتالي في حالة وجود توافق تركي مصري روسي حول طرف معين في ليبيا، من المحتمل أن تكون له الكلمة العليا في الفترة القادمة.

أما عن دوافع عقيلة صالح والمشري من التقارب مع أنقرة، فهما يعلمان أن أنقرة من أهم اللاعبين المنخرطين في الأزمة، كما وقد تلعب دورا مفصليا في تحديد وجهة الأحداث في ليبيا خلال الفترة المقبلة، باعتبار تركيا الداعم الأقوى لحكومة “الدبيبة”. وهذه وجهة نظر أيدها الكثير في الداخل الليبي، أضف إلي ذلك أن كل مبادرة أو اتفاق يتوصل إليه البرلمان أو الجيش كان يصطدم في النهاية بفيتو تركي، وهذا نابع من سيطرة تركية على القرار السياسي في عدد من مؤسسات الدولة. وفي وقت سابق زار عقيلة صالح المغرب من أجل الاتفاق حول الدستور، وفقاً لمسولين ليبيين، لم تكتمل الخطوات في هذا الشأن تحت ذريعة الرفض التركي، بل الأدهى أن بعض الأطراف المعنية طلبت استشارة الحليف التركي منذ البداية.

كما قد يكون التقارب بين تركيا وعقيلة صالح سببه تقارب الدبيبة وحفتر مؤخرا، بعدما اجتمع ممثلون عنه وعن حفتر في دبي في وقت سابق، كما قام الدبيبة بتعيين فرحات بن قدارة (المقرب من حفتر) رئيسا لمؤسسة النفط، وهو ما عارضه صالح. كما أثار التقارب نفسه حفيظة أنقرة، وقد يعتبر هذا الدافع الأكثر إلحاحا على التقارب، ولكن هذا لا يعني أن أنقرة توافق على باشاغا، الذي يعتبر فاقدا لثقة الأتراك منذ زيارته للرجمة ( معقل حفتر )، كما أنها إذا دعمت باشاغا، ستكون بذلك تخلت رسميا وعلنا عن الدبيبة في وقت تدعي فيه أنقرة الحياد، وقدرتها على الإمساك بمفاتيح الحل للأزمة الليبية حاليا بحكم علاقاتها الوثيقة بمختلف أطرافها. وبالتالي فدعم أنقرة لباشاغا أمر مستبعد في الوقت الراهن، ولكن ليس مستحيل، فهو مرهون بضوء أخضر غربي فذ هذا الشأن.

تداعيات محتملة:

هناك احتمالية بأن تشهد الفترة القادمة توافقات بين أطراف إقليمية ودولية بشأن تشكيل حكومة جديدة في ليبيا، بديلة لحكومتي الدبيبة وباشاغا، من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا، حتى ولو بشكل مؤقت بعد الأحداث الدامية الأخيرة الأسبوع الماضي بسبب الصدام بين الحكومتين سالفتي الذكر، أي استبعاد الدبيبة وباشاغا من الساحة السياسية، وقد يشير إلى ذلك أن الزيارات والمبادرات الحالية الخاصة بالشأن الليبي لم يشارك فيها أي منهما، بل اقتصرت قيادة التحركات على المشري وصالح فقط، اللذان يتوقع لها دورا كبير فيما بعد، بالإضافة إلى عبدالله اللافي نائب رئيس المجلس الرئاسي.

استكمالاً لما سبق، يمكن القول إن هناك ترجيحات تشير إلى احتمال تنافس عبدالله اللافي على رئاسة الحكومة جديدة _ حال تشكيلها _، وتستند وجهة النظر هذه إلى توارد تقارير ليبية عن احتمالية وجود تنسيق إقليمي  بشأن ذلك، وبالأخص خلال زيارة المشري وصالح واللافي إلى أنقرة، ثم القاهرة بعدها بأيام. فقد اعتدنا في أروقة السياسة، أنه لا يوجد شئ تقريبا يسمي ” صدفة “، إلا في حالات نادرة، لذا قد تعبر مشاركة اللافي تقريبا في كافة المبادرات ومحاولات التسوية الأخيرة، رغم أنه مجرد نائب للمشري، بل وحتى في حضور المشري نفسه، وكان آخرها ترؤسه منذ أيام لحلقة نقاش حول مشروع المصالحة الوطنية في ليبيا، على أنه هناك تخطيط لأن يكون له دور في الفترة القادمة، ويتم العمل حاليا على تهيئة الرأي العام وتسويق اللافي سياسيا. وكمثال أقرب، عندما بدأ يتم تداول اسم فتحي باشاغا مرارا ومشاركته في أى مبادرة منذ أشهر، فوجئنا بأنه تم اختياره رئيسا للحكومة من البرلمان.

وأيضا يؤشر الوضع الحالي في ليبيا إلى احتمالات تزايد فرص مشاركة الإخوان في المشهد السياسي مرة أخرى، بناءا على أن الفترة الحالية تخللتها تحركات كثيرة قادها ممثلي جماعة الإخوان في ليبيا، وعلى رأسهم المشري واللافي، الأمر الذي قد تعتبره أنقرة فرصة سانحة لتعظيم نفوذها في ليبيا، خاصة إذا تواجد ممثلي الإخوان في السلطة، ولهذا ستحاول أنقرة إيجاد صيغة مشتركة للعمل بين المشري وصالح في الفترة القادمة_ التي يتوقع فيها أفول نفوذ الدبيبة أيضا في المقابل _ والعمل على حلحلة الخلافات بينهما، والتي تتسبب في حالة الانسداد السياسي منذ سنوات، على إثر الخلاف حول شروط الترشح للرئاسة في ليبيا.

وبالتالي في حالة تولى عبدالله اللافي رئاسة حكومة جديدة في ليبيا، بناءا على دعم تركي متوقع، فسيتضاعف تأثير ونفوذ الإخوان والدور التركي بالتبعية في ليبيا عما مضى، ولكن ليس من الواضح حتى الآن طبيعة الموقف المصري في هذا الصدد_ رغم أنه أصبح هناك شبه تأكيدات على وجود توافق مصري تركي في ليبيا _ وما إذا كان من الممكن أن توافق القاهرة على تولي اللافي أو أحد ممثلي جماعة الإخوان المسلمين رئاسة الحكومة في ليبيا، حتى وإن كان كمقابل لتغير الموقف التركي تجاه الشرق الليبي، أم أنها ستعرقل مثل تلك الخطوة ؟، خاصة في ظل الحديث عن ضرورة إجراء انتخابات تشريعية على الأقل كبداية، واختيار حكومة تحظى بترحيب الجميع.

ماذا عن الاشتباكات الأخيرة؟:

ذهب البعض إلى اعتبار الاشتباكات الأخيرة في ليبيا نتيجة للتنسيق بين القوى الخارجية الفاعلية في ليبيا، من أجل التخلص من كلا الحكومتين المتصارعتين، سواء بنجاح إحداهما في إسقاط الأخرى، أو اتخاذها ذريعة للتخلص من كلتاهما معا، وتشكيل حكومة جديدة تجلب الاستقرار الداخلي في ليبيا. فقد بات واضحا عدم الرضي لا في الداخل الليبي ولا الخارج عن وجود حكومتين في ليبيا، فأصبح دافعا لباشاغا للتخلص من منافسه الدبيبة، تجنبا لخيار الاتفاق النهائي على التضحية بالحكومتين، وتشكيل حكومة جديدة.

ويعتبر النفط الليبي من أهم الدوافع التي تحث الدول الغربية على محاولة تحقيق الاستقرار في ليبيا بأي شكل كان، من أجل ضمان إمدادات النفط الآتية من ليبيا، بل والعمل على زيادتها من أجل ضمان استقرار الأسعار في الأسواق العالمية، خاصة وأن العالم لايزال يعاني من أزمة كبيرة في الطاقة منذ الحرب الأوكرانية، كما وفي الوقت نفسه سيتحقق الاستقرار السياسي في ليبيا، وفي هذه الحالة ستصبح ليبيا شريك ذي قيمة بالنسبة إلى أوروبا. ولهذا فزعت الدول الغربية، وتركيا أيضا، للأحداث الأخيرة في ليبيا، ودعت إلى وقف القتال خوفا من التأثير على إمدادات النفط، الذي سيأتي بالتأكيد في مصلحة روسيا على الجانب الآخر. وهذه أسباب كافية لتدفع أنقرة إلى الحفاظ على نفوذها في ليبيا، بل وتعزيزه إن استطاعت، لأنه من الواضح أن الأنظار ستتجه مرة أخرى إلى ليبيا في الفترة القادمة.

وفي الأخير، يمكن القول أن أنقرة ستحاول الاستفادة من الجميع، من خلال الإبقاء على موقفها المحايد _ كما تصفه _ أطول فترة ممكنة، لحين إشعار آخر، فإذا وجدت أنقرة أن الدعم الغربي يصب في صالح جهات معينة، في هذه الحالة قد تضطر للسير على هداهم وفقا لاعتبارات المصلحة. أما ما دون ذلك، ستستمر سياسة المناورة التركية، والتلاعب برئيسي الحكومتين المتنافستين ومؤيديهما لتحقيق أكبر قدر من المكاسب لصالحها، والتضحية بكلاهما إذا اقتضت المصلحة.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى