إلى أين يصل مستوى التوتر بين بكين وواشنطن بسبب تايون؟
أثارت الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي “نانسي بيلوسي” الثلاثاء 2 أغسطس 2022؛ غضب الصين، والتي اعتبرتها تدخلاً خطيراً في شؤونها الداخلية، وتقويضاً خطيراً لسيادة وسلامة أراضيها؛ فيما اعتبرته الولايات المتحدة، وعلى لسان وزير خارجيتها “أنتوني بلينكن”، أن بكين بالغت في رد فعلها تجاه زيارة “بيلوسي” لتايوان، معتبرة أنها زيارة سلمية، وأن تصرفات بكين غير مبررة؛ غير أن الزخم العالمي الذي حازته تلك الزيارة أثار الكثير من التساؤلات حول أهمية تايوان في علاقات واشنطن وبكين، والتي طالما كانت في قلب الصراع بين البلدين، فما هو مغزى الدعم الأمريكي لتايوان؟، ولماذا تتحرش الولايات المتحدة بالصين عبر تايوان؟، هذا ما يحاول المقال التالي الإجابة عنه.
الأهمية الاستراتيجية لتايوان:
تايوان جزيرة صغيرة تقع بالجزء الشرقي من بحر الصين، وتطل على المحيط الهادي من الشرق، ويفصلها مضيق تايوان غربا عن مقاطعة فوجيان الصينية، التي تبعد عنها 140 كيلومترا، وتبلغ مساحة تايوان 36 ألف كيلومتر مربع تقريباً، ويصل عدد سكانها حوالي 24 مليون نسمة، وتتمتع بالحكم الذاتي منذ الثمانينيات.
تحوز تايوان موقع جيوسياسي بالغ الأهمية، حيث تقع جزيرة تايوان بالضفة الشرقية لمضيق تايوان، والذي يعد أحد أهم الممرات الملاحية في العالم؛ إذ يمر من خلالهما يقرب من نصف حاويات العالم، وثلث التجارة العالمية بقيمة تصل إلى 3,4 تريليون دولار، فهو الطريق الرئيسي لسفن البضائع القادمة من الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والمتجهة إلى الأسواق العالمية، ويؤثر أي اضطراب لحركة الملاحة بالمضيق على حركة سلاسل التوريد العالمية.
تعد تايوان أهم مراكز تصنيع رقائق الكمبيوتر عالي التقنية؛ حيث تحوز أهم شركات صناعة الرقائق وأشباه الموصلات في العالم، خاصة شركة “”tsmc، والتي تهيمن على نحو 60% من إجمالي تصنيع أشباه الموصلات عالميا حتى العام 2022، وتشكل حصة كل من تايوان وكوريا الجنوبية83%، من سوق رقائق الكمبيوتر عالي التقنية على المستوى العالمي، وبالتالي فأن أي توتر في تايوان سيؤثر بشدة على سوق التكنولوجيا في العالم؛ خاصة وأن صناعة الرقائق وأشباه الموصلات تدخل في كل الصناعات الالكترونية والعسكرية.
أبعاد الصراع حول تايوان:
انفصلت تايوان عن الصين عقب حرب أهلية بين حزب الكومينتانغ القومي الصيني، بقيادة “شيانغكاي شيك “الموالي للغرب، والحزب الشيوعي الصيني بقيادة “ماو تسي تونغ”، الرئيس السابق للصين، والذي أعلن عن قيام جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، بعد الانتصار على حكومة حزب الكومينتانغ، والذي لجأ أعضائه إلى جزيرة تايوان وأعلنوا تأسيس جمهورية الصين الديمقراطية، بدعم من الولايات المتحدة.
لكن بكين ومنذ ذلك التاريخ تسعى إلى إنهاء الصراع مع تايوان وضمها إليها، معتبرة إياها إقليما تابعا لها وجزءً لا يتجزأ من أراضيها، وفي فترة الثمانينيات اقترحت حكومة بكين منح تايوان الحكم الذاتي، وفق مبدأ “صين واحدة”، واعتمدت بكين في مارس 2005، قانوناً ضد انفصال تايوان، والذي يقضي باللجوء إلى الوسائل “غير السلمية” في حال أعلنت تايوان استقلالها.
ودائماً ما تعلن بكين عن جديتها في عملية ضم تايوان، والتي تعتبرها مسألة وقت لا أكثر، وتبدي استعدادها لمهاجمة تايوان والاستيلاء عليها، من خلال إجراء العديد من المناورات العسكرية، وزيادة عمليات الانتشار في القواعد القريبة من تايوان، وإطلاق الصواريخ البالستية فوق الأراضي التايوانية، وهو ما شهدته المناورات الأخيرة.
وتعتبر بكين الصراع مع تايوان صراعاً داخلياً، وترى في زيارات المسئولين الحكوميين الأجانب للجزيرة؛ بمثابة اعتراف منهم بسيادة تايوان، ويمثل تعدي صريح على سيادة الصين، وتنظر للاتصال الأمريكي الرسمي مع تايوان تشجيعاً للأخيرة على الاستقلال، وهو ما تعده لعب بالنار، “وأن من يلعب بالنار ستحرقه” على حد قول الرئيس الصيني”شي جين بينغ” للرئيس الأمريكي “جو بايدن” خلال اتصال هاتفي الأسبوع الماضي.
تداعيات زيارة “بيولسي” لتايوان:
أظهرت زيارة “نانسي بيلوسي” إلى تايوان، الثلاثاء 2 أغسطس 2022، مدى التوتر الذي تشهده العلاقات الصينية الأمريكية؛ خاصة ما يتعلق بتايوان، فقد أدت زيارة “بيلوسي”، إلى تصعيد التوتر بين بكين وواشنطن إلى الحد الذي وصف بأنه “غير مسبوق”، وبالرغم من تأكيد الإدارة الأميركية لبكين التزامها بسياسة “صين واحدة”، معتبرة زيارة “بيلوسي”، زيارة شخصية، إلا أنها تؤكد في الوقت ذاته لا تمنع من إقامة علاقات غير رسمية ودفاعية مع تايوان، وتؤكد غير مرة على تعهدها بالدفاع عن تايوان ضد أي هجوم، وتمد تأييده بأسلحة ومعدات عسكرية، وهي سياسة تعرف وفقاً لمجلس العلاقات الخارجية بـ “الغموض الاستراتيجي”.
وتعتبر زيارة “بيولسي”، بمثابة جس نبض لرد فعل الصين والكشف عن نوايا بكين ومدى جديتها في مسألة ضم تايوان، فلم يسبق لمسئول أمريكي رفيع المستوى كـ “بلوسي” وزار تايوان منذ متصف تسعينيات القرن الماضي؛ لكن من الواضح أن الزيارة كشفت عن رد فعل قوي من جانب الصين، التي اتخذت العديد من الإجراءات تشمل: إجراء مناورات عسكرية وتدريبات بالذخيرة الحية في مواقع متعددة بالقرب من تايوان وفي مضيق تايوان، تستمر من الرابع إلى السابع من أغسطس2022، بحسب وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا).
كما أعلنت وزارة الخارجية الصينية في الخامس منأغسطس2022، وقف التعاون والاتصالات مع واشنطن في ملفات عدة تمتد من التغير المناخي إلى الاتصالات العسكرية،ووقف التعاون في ملفات: إعادة المهاجرين غير الشرعيين، ومكافحة المخدرات، والسلامة البحرية، ومكافحة الجريمة عبر الحدود، وهو ما أدانه مسئولون أمريكيون، معتبرين ذلك رد فعل مبالغ فيه وغير مسئول.
كما أعلنت الصين عن معاقبة تايوان، من خلال فرض عقوبات اقتصادية على الجزيرة؛ منها منع استيراد 100 منتج زراعي، فضلاً عن منع تصدير الرمال الطبيعية)، فضلاً عن عقوبات العسكرية، مما يشير إلى اتباع بكين نهج أكثر عدوانية تجاه المسألة التايوانية.
وبذلك تأتي تايوان من أبرز ساحات المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، والتي تشهد “منافسة قوية على نحو متزايد”، خاصة في منطقة بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي، حيث تسعى الصين لفرض سيطرتها هناك، والاستحواذ على طرق الملاحة البحرية التي تبدأ من بحر الصين الجنوبي مرورا بالموانئ الأسيوية والأفريقية، وصولاً إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس، فضلاً عن مساعي بكين لضمان الموارد الطبيعية غير المكتشفة في البحر الصين الجنوبي من النفط والغاز والمعادن في تلك المنطقة.
وتشعر الولايات المتحدة بقلق متزايد بشأن الوجود الصيني المتنامي في منطقة المحيط الهادي، حيث ترفض السيطرة الصينية على هذه المنطقة الحيوية، وعقب الحرب الروسية الأوكرانية أعلن البنتاجون،عن أن الصين تشكل تهديد أكبر من روسيا للمصالح الأمريكية!
ولهذا تمثل تايوان نقطة توتر استراتيجي بين الصين والولايات المتحدة، حيث تسعى الأخيرة إلى ممارسة الضغط على بكين لإنهاك قواها، لا سيما وأن الصراع مع تايوان، سوف يؤثر بشدة على النمو الاقتصاد الصيني، خاصة إذا تحول الصراع إلى صراع عسكري،إذ سيؤدي ذلك إلى استنزاف الاقتصاد الصيني على المدى البعيد، الأمر الذي يدفعه للتراجع أمام الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يأتي ضمن سياسة حمل الدول على هزيمة نفسها، وهي سياسة تجديد واشنطن استخدامها، وإن كانت طويلة الأمد، وتأخذ عدة أشكال وتكتيكات.
استنادا إلى ما سبق؛ يتضح تصميم الصين على ضم تايوان، لا سيما وأن بكين تؤكد امتلاك القدرة على ذلك معتبرة المسألة مسألة وقت، ولديهم قول مأثور عن تايوان يقول: “دع الثمار تسقط عندما تنضج، وليس بالقوة أو الضغط”، وهو ما تمارسه بالفعل.
أيضاً بالرغم من إن زيارة “بيلوسي” ذات طابع برلماني كما هو معلن، لكنها تحمل ولا ريب رسائل واضحة إلى بكين، مفادها أن واشنطن لا زالت تمسك بورقة تايوان،وأن بإمكانها اضعاف قوة الصين عبر تايوان،ولعل ذلك هو ما يفسر حدة رد الفعل الصيني على الزيارة.
كذلكرغم الاستفزازات الأمريكية للصين؛ إلا أن واشنطن لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مع بكين، كما أنهالن تخوض حرباً مع الصين من أجل تايوان، في الوقت ذاته لا يمكنها التفريط في نفوذها في تايوان وبحر الصين الجنوبي ومنطقة المحيط الهادي، لذلك ستسعى للحفاظ على استمرار الوضع القائم.
وبالتالي فإن السيناريو الأكثر ترجيحا للوضع غي مضيق تايوان، هو الإبقاء على الوضع الراهن؛ إذ أن الصين وإن كانت تعلن عن استعدادها لضم تايوان، لكنها ترى أن الوقت لم يحن بعد!!، لا سيما وأن ردة الفعل العالمية قد لا تكون في صالحها، كذلك الولايات المتحدة برغم تأكيدها على الدفاع عن تايوان، فهي تستبعد التورط في حرب مباشرة مع الصين، يمكنها أن تقضي على مصالحها في تلك المنطقة؛ بل يمكن أن تتخطى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
بالأخير ما هو مؤكد أن دوافع الصراعات تتزايد، ووتيرة الأحداث تتسارع ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلاً على نحو دقيق، فالعالم على شفا أزمات متتالية؛ منذ بداية العام 2020، والذي لم تكن بدايته طبيعية، منذ أن شهد انتشاراً لجائحة فيروس كورونا ومتحوراته، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، والذي تسببت به من أزمات سلبية اقتصادية لدول العالم، ثم التوترات بين واشنطن وبكين حول تايوان، يدفع الجميع لتحسب خطواته جيداً، فمن الواضح أن جميع دول العالم تعيش لحظات فارقة في تاريخها.