مخاوف متزايدة: التداعيات الاقتصادية لارتفاع أسعار الفائدة

فرضت الحرب الروسية-الأوكرانية عبئاً كبيراً على الاقتصاد العالمي، حيث أدت إلى ارتفاع في أسعار الطاقة والغذاء، صاحبه زيادة في معدل التضخم، الذي كان نتيجته قيام الولايات المتحدة والعديد من البلدان، منهم المملكة المتحدة، وجنوب إفريقيا برفع أسعار الفائدة. فعلى سبيل المثال، قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الـ 27 من يوليو الجاري، رفع معدل الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس 0.75 % فى أكبر زيادة لسعر الفائدة منذ عام 1994 لوقف تسارع التضخم، وبهذا الارتفاع تصل معدلات الفائدة فى أمريكا إلى 2.50 %. وبالمثل، رفع البنك المركزي الأوروبي في الـ 21 من يوليو الجاري أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ 11 عامًا، من خلال رفع سعر الفائدة القياسي بمقدار 50 نقطة أساس، في محاولة لتهدئة التضخم المتفشي في منطقة اليورو، وفي ذات اليوم (الـ 21 من يوليو) قام البنك المركزي بدولة جنوب إفريقيا، برفع سعر الفائدة القياسي بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية إلى 5.5 في المائة، بسبب مخاوفه من ارتفاع التضخم، وضعف النمو الاقتصادي.

بشكل عام، من المتوقع أن تؤثر أسعار الفائدة المرتفعة على تكلفة الاقتراض للبنوك، والتي يتم تمريرها بعد ذلك إلى الشركات والمستهلكين والأسر. ولكن من المتوقع أيضًا أن تؤدي تكاليف الاقتراض المرتفعة إلى إبطاء الاقتراض والنشاط الاقتصادي، مما سيؤدي في النهاية إلى إبطاء التضخم.

احتمالات واردة:

في الـ 6 من يوليو الجاري، نشرت بعض وسائل الإعلام أن اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ( ذراع صنع السياسة في بنك الاحتياطي الفيدرالي، والتي تفكر في مقدار وسرعة رفع سعر الفائدة القياسي خلال الأشهر المقبلة لمحاربة التضخم)- أسفر عن أن المسئولين باللجنة أكدوا على أنه سوف يتخذ إجراءات قوية وحاسمة من أجل السيطرة على معدلات ارتفاع التضخم، أهمها رفع مستوى الفائدة بشكل أكبر حتى ولو كان على حساب معدلات النمو- بمعنى أن الفيدرالي الأمريكي، مستمر في سياسة رفع الفائدة وبنسب قوية طبقا لبيانات التضخم.

قبل أسبوع واحد فقط وفي اجتماعه الأخير، كان من المتوقع أن يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار 0.5 نقطة مئوية، وفي وقتها توقع المحللين الماليين والاقتصاديين، ارتفاع أكبر بمقدار 0.75 نقطة بعد أن أشارت بيانات أسعار المستهلك لشهر مايو الماضي إلى أن التضخم كان كبيراً بشكل غير متوقع، حتى أنهم جادلوا بأن رفع الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة أمر يمكن أن يحدث. في الوقت ذاته، سيطرت حالة من الخوف والترقب الشديدين على أعضاء الفيدرالي الأمريكي، على اعتبار أن رفع سعر الفائدة سيتسبب في تراجع معدلات النمو، وهذا هو نفس الخوف الموجود في العالم أجمع، بسبب احتمالات دخول الاقتصاد العالمي، والأمريكي خاصة في مرحلة الركود التضخمي.

وتجدر الإشارة، أنه إلى جانب قرارات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، يؤثر مؤشر أسعار المستهلك بشكل مباشر على قرارات الفيدرالي الأمريكي في اجتماعاته الدورية، الخاصة بتحديد الفائدة، حيث كشف إصدار مؤشر أسعار المستهلك خلال الشهر الجاري عن ارتفاع التضخم بنسبة 9.1٪ في يونيو الماضي مقارنة بالوقت نفسه من العام الماضي، مسجلاً أكبر زيادة منذ نوفمبر 1981.

خوف متزايد:

دفعت احتمالات تسريع وتيرة رفع أسعار الفائدة بسبب التضخم في الأسواق المالية إلى انخفاض بأكثر من 6٪ منذ تقرير 10 يونيو الماضي. وعليه، يشعر المستثمرون بالقلق من أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يبطئ الاقتصاد كثيرًا في معركته لخفض التضخم، والذي إذا ترك دون رادع، فإنه سيتسبب أيضًا في مشاكل خطيرة للمستهلكين والشركات. فقد أظهر استطلاع حديث للرأي العام في أمريكا، أن التضخم يُعد المشكلة الأكبر التي تواجهها الولايات المتحدة تواجهها في الوقت الراهن.

تأسيسياً على ما سبق، يجب على صانعي السياسات ومتخذي القرارات إعطاء الأولوية لواحدة من اثنين، هما: إما كبح التضخم أو مقاومة الركود- أي عندما يكون الاقتصاد ضعيفًا، عادة ما يكون التضخم خافتًا، ويمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي التركيز على إبقاء معدلات الفائدة منخفضة لتحفيز الاستثمار وتعزيز التوظيف. من ناحية أخرى، عندما يكون الاقتصاد قوياً، فإنه عادة ما تكون البطالة منخفضة للغاية، وهذا يسمح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بالتركيز على السيطرة على التضخم, وللقيام بذلك يحدد الاحتياطي الفيدرالي، أسعار فائدة قصيرة الأجل، والتي بدورها تساعده في التأثير على أسعار الفائدة طويلة الأجل.

 فعندما يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي، سعر الفائدة قصير الأجل، فإن ذلك يزيد من تكاليف الاقتراض للبنوك، والتي بدورها تنقل تلك التكاليف المرتفعة إلى المستهلكين والشركات في شكل معدلات أعلى على القروض طويلة الأجل للمنازل والسيارات وغيرهما، وهذا ما يعد سبباً في ارتفاع معدلات الرهن العقاري، كما أن ما سبق يعتبر أحد أسباب ارتفاع مدفوعات الرهن العقاري بهذه السرعة في عام 2022، حتى مع بدء تباطؤ أسواق الإسكان والأسعار. واستكملاً لما سبق، يمكن التأكيد على أنه عندما تكون أسعار الفائدة أعلى، يمكن لعدد أقل من الناس شراء المنازل، وقليل من الشركات تستطيع الاستثمار في مصانع جديدة، وتوظيف المزيد من العمال.

 عليه، يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى إبطاء معدل نمو الاقتصاد بشكل عام، مع كبح التضخم أيضًا. وهذه ليست قضية، تؤثر على الأمريكيين فقط، بل تأثيراتها مماثلة على الاقتصاد العالمي، سواء عن طريق زيادة تكاليف الاقتراض أو زيادة قيمة الدولار، مما يجعل شراء السلع الأمريكية تكلفته كبيرة. ولكن في الوقت الحالي، يوجد مشكلتين، هما: الأولى، تتمثل في ارتفاع أسعار مع أزمة ركود، والتي من المحتمل تؤدي لبطالة مرتفعة. ويمكن القول، إنه أسعار الفائدة المرتفعة تهدف إلى إبطاء الاقتصاد، مما قد يؤدي إلى إعاقة إيرادات الشركات، والتي بدورها سوف تؤدي إلى الإضرار بنموها وأسعار أسهمها، وفقًا لمجلة فوربس. وعليه، يكون من المحتمل في الوقت الحالي، أن يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي، برفع الفائدة بمقدار 3.5٪ بحلول ديسمبر المقبل، وهو ما يعني أن هناك زيادات كبيرة في أسعار الفائدة قد تحدث خلال العام الجاري، وربما تقترب تلك الزيادات من 4٪ في عام 2023- قبل احتمالية أن تنخفض مرة أخرى في عام 2024.

الزيادات ومكافحة التضخم..كيف تعمل؟:

بصفته البنك المركزي للبلد، فإن الاحتياطي الفيدرالي، هو المسئول عن السياسة النقدية، وبالتالي تتمثل مهمته المزدوجة في تعزيز “الحد الأقصى من فرص العمل والأسعار المستقرة في الاقتصاد الأمريكي”. وإذا كانت الأسعار المستقرة، تعني إبقاء التضخم تحت السيطرة، فإن واحدة من الأدوات الرئيسية للاحتياطي الفيدرالي للتأثير على التضخم- تتمثل في معدل الأموال الفيدرالية، وهو السعر الذي تفرضه البنوك على بعضها البعض مقابل قروض الليلة الواحدة.

وعلى الرغم من أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، لا يتحكم بشكل مباشر في جميع أسعار الفائدة، عندما يرفع معدل الأموال الفيدرالية- فإن جميع أسعار الفائدة الأخرى، تحذو حذوه في النهاية، بما في ذلك الرهون العقارية ذات المعدل القابل للتعديل، وبطاقات الائتمان، وخطوط ائتمان حقوق الملكية العقارية، والقروض الأخرى التي يعتمد على معدل الأموال الفيدرالية.

وكما تمت الإشارة من قبل، على أن ارتفاع معدل الأموال الفيدرالية، يؤثر أيضًا على سندات الخزانة لمدة 10 سنوات، مما يؤثر على الرهون العقارية، وبالتالي يصبح اقتراض الأموال بعد ذلك أكثر تكلفة بالنسبة للمستهلكين الذين ينفقون أقل، ثم من الناحية النظرية يبدأ الطلب في التراجع، وبالتالي يبدأ التضخم في التراجع حتى يتم السيطرة عليه.

في النهاية، يمكن القول إن المستقبل المالي والمصرفي سيظل مضطربا لفترة طويلة، فقد حذر بعض المراقبين للخدمات المصرفية الأمريكية، من انخفاض القوة الشرائية إذا ظلت معدلات الفائدة أقل من معدلات التضخم المتزايدة، وأوضحوا أنه “بالنسبة للأشخاص الذين لديهم ديون متزايدة، حتى أولئك الذين لديهم حساب توفير، فإن هذا الارتفاع يقلق لأن العديد من الأشخاص يكافحون لسداد الديون الحالية أثناء إدارة نفقات. وأضافوا أن بعض المدخرين، استفادوا من ارتفاعات أسعار الفائدة السابقة على الحسابات الجارية، وحسابات التوفير، والشهادات الإيداع، مؤكدين على ضرورة أن يكون لدى الأشخاص مدخرات سائلة بغض النظر عما يحدث  وذلك لمواجهة المخاطر المحتملة القادمة”.

د.حنان بركات

د. حنان بركات: خبيرة في شؤون الدراسات الاقتصادية، وهي تعمل رئيساً لقسم التمويل و الاستثمار بالجامعة المصرية الصينية، حاصلة على درجة الدكتوراه في التمويل والاستثمار من جامعة عين شمس، الخبيرة مهتمة بالقضايا الاقتصادية و الاستثمارية في العالم, نشرت العديد من الأبحاث في مجال التمويل، كما عملت في بعض مراكز الفكر والدراسات العربية، وكتبت في العديد من المجلات المحكمة المتخصصة في الشئون الاقتصادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى