خسائر متزايدة: مخاطر تبخر السيولة في الأسواق العالمية

تسبب سحب السيولة من الأسواق عن طريق وقف برامج شراء السندات وارتفاع سعر الفائدة في تكبد أسواق الأسهم العمالية، خسائر ضخمة في النصف الأول من العام الحالي، وهي تعتبر أكبر خسائر نصف سنوية لها على الإطلاق، فلم تشهد الأسواق الأميركية مثل هذه الخسائر منذ عام 1970، حيث خسرت تلك الأسواق حوالي 9 تريليون دولار، وكانت الخسارة الأكبر في مؤشر “ناسداك”، خصوصا في شركات التكنولوجيا، التي بلغت قيمة خسارتها نحو 5.4 تريليون دولار- أي ما يعادل هبوطاً بنسبة تزيد عن 30%، هذا بالإضافة إلى هبوط مؤشر “أس أند بي” القياسي بنسبة 20.6% من قيمته خلال الأشهر الستة الماضية. الملاحظ أن أسهم الشركات الأمريكية شهدت تراجع في كل القطاعات، خاصة شركات خدمات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وتقريباً كل شركات التي تتعامل مباشرة مع المستهلكين باستثناء أسهم شركات الطاقة، التي شهدت ارتفاعاً بأكثر من 30%.
من ناحية أخرى تلاحظ أيضاً حدوث انخفاض في مؤشر الأسهم العالمي “أم أس سي آي” بنسبة 20%، وكانت أيضا أسهم شركات التكنولوجيا الأكثر هبوطا وانخفاضا في قيمتها. هذا بالإضافة إلى مؤشرات متتالية تدل على ضعف النشاط الاقتصادي وبالتالي ارتفاع نسبة حدوث ركود اقتصادي.
تأسيساً على ما سبق، يطرح هذا التحليل تساؤل الضرورة، هو: ما هي مخاطر تبخر السيولة في الأسواق العالمية؟
تشاؤم وترقب:
بقراءة وتحليل بيانات “بلومبيرغ” للأسواق الرئيسة، فإن موجات البيع الهائلة أثرت سلباً على أسهم الشركات في كل القطاعات، مع تخوف المستثمرين من استمرار زيادة أسعار الفائدة لمواجهة ارتفاع التضخم، وأيضاً انهيار الإنفاق الاستهلاكي، إذ أن هناك حذر وترقب من المستهلكين حيال المستقبل، وتراجع القيمة الفعلية لدخل الأفراد بسبب ارتفاع الأسعار. كما تشير بعض البيانات المنشورة عن الاقتصادات الرئيسة إلى تباطؤ النشاط الصناعي، وهو ما قد يؤدي إلى خطورة وقف نمو الناتج الإجمالي المحلي، وينذر بحدوث انكماش أسرع مما كان متوقع.
يقول محلل الأسهم في (سيتي جروب)، سكوت كرونرت، إن القراءات المتتالية لمعدلات التضخم، أسهمت في تشدد رد فعل الاحتياطي الفيدرالي، ليتجه أكثر نحو استهداف وقف ارتفاع التضخم من دون تركيز على التبعات الاقتصادية، وبالتالي نجد المستثمرين يترددون في الشراء (للأسهم) مع احتمال تراجع العائدات. كما أنه في ظل أزمة وباء كورونا ثم الحرب في أوكرانيا، وما صاحبهما من ارتفاع في أسعار الغذاء والطاقة حول العالم، لا يزال التوتر الشديد يخيم على المستثمرين في أسواق الأسهم، لدرجة أن كثيراً منهم يلجئون إلى تسييل استثماراتهم من خلال بيع كميات كبيرة من الأسهم. ويمكن التدليل على هذه الحالة السائدة في معظم دول العالم من خلال ما تضمنته تصريحات باستيان دروت، من شركة (سي بي آر) لإدارة الأصول بباريس، حيث قال في مقابلة مع صحيفة (فاينانشيال تايمز)، إن “الحالة المسيطرة على مزاج السوق، تتمثل في احتمالات الركود الاقتصادي بالولايات المتحدة وأوروبا”، مشيراً إلى أن التوقعات “سلبية جداً” وسط قناعة، بأن انتظار السوق لتدخل البنوك المركزية لدعم النمو الاقتصادي “لم يعد وارداً”.
كما أن احتمالات قيام الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي، برفع الفائدة بنسبة تتجاوز النسبة السابقة (0.75%) التي وصلت إلى ما بين 2.20 و2.5%- جعل الأسواق تتحسب نتائج عملية الرفع المقبلة للفائدة الأميركية، وهو قد ما يجعلها تتجاوز نسبة 3% بنهاية العام. كذلك، من المتوقع أن يحذو بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) حذو الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة للمرة الخامسة منذ نهاية العام الماضي، كما ينتظر قيام البنك المركزي الأوروبي، الذي يضع السياسة النقدية لدول منطقة اليورو، برفع سعر الفائدة هذا الشهر للمرة الأولى منذ 2011.
وعلى ما سبق، يمكن القول إن استمرار الزيادة في سعر الفائدة من شأنه أن يضغط أكثر على النشاط الاقتصادي، بالتالي يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الرئيسية، والذي في النهاية سيؤدي إلى الانكماش، ويزيد ذلك من تشاؤم المحللين والمتعاملين في السوق من أن الركود في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، ربما يحدث بنهاية هذا العام، وليس العام المقبل 2023، كما كانت التقديرات تفيد سابقاً. ويزيد من موجة التشاؤم حول العالم أن رفع سعر الفائدة، قد يضر بالنمو الاقتصادي أكثر من تأثيره في وقف ارتفاع معدلات التضخم.
وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، وتصعيد العقوبات الغربية على روسيا، لا يبدو أن التبعات الاقتصادية لهما ظهرت كاملة، فحسب تقرير لوكالة “بلومبيرغ”، توقع بنك “جيه بي مورغان” الاستثماري، أن تصل أسعار النفط إلى 380 دولاراً للبرميل، في أسوأ سيناريو في حال أدت العقوبات إلى توقف تصدير النفط الروسي للسوق العالمية.
تبخر السيولة المخيف:
لقد تدهورت قدرة المتداولين على شراء وبيع الأسهم والسندات والمنتجات المالية الأخرى بسلاسة في الأسواق المالية العالمية بشكل حاد هذا العام، مما زاد من تأرجح وحدوث تقلبات الكبيرة في أكبر وأعمق أسواق رأس المال في العالم. فقد وصلت السيولة في الأسواق الأمريكية حتى تاريخه إلى أسوأ مستوياتها منذ الأيام الأولى للوباء في عام 2020، وفقًا للبنوك الأمريكية الكبرى، وكبار المستثمرين الذين يقولون، إن مديري الأموال والمحافظ الاستثمارية يكافحون لتنفيذ التداولات دون التأثير على الأسعار.
وبناءاً على تصريح نائبة رئيس إدارة محافظ مالية في الولايات المتحدة، فان هناك عدد لا بأس به من عمليات التداول تحدث، لكن من حيث حجم الطلب كانت تعتبر الأصغر في الأشهر الأخيرة. وأكملت أنه إذا كان هناك مستثمرين ومديرين محافظ من نوع الذي يحاول القيام بتداولات كبيرة بشكل سريع ومحدد بشأن ما يجب تداوله، فمن المرجح أنه ستكون هناك تحديات بالنسبة إلى سيولة.”
وبالتالي، يمكن القول إن جفاف السيولة، قد يؤثر أيضًا على الأسواق الحيوية التي تستخدمها الشركات لتمويل نفسها، وأيضا تؤثر على قدرة الحكومات لتمويل الإنفاقات العامة الحكومية. وقد أظهر محضر اجتماع السياسة الأخير للبنك المركزي الأمريكي، الذي نُشر الشهر الماضي أن المسئولين قلقون من المشكلات التي تنشأ في سوق الخزانة والسلع بسبب ضعف السيولة. فقد قال جوردان سنكلير، مدير الأبحاث في صندوق التحوط كابستون، عن نقص السيولة، إنه “أمر محبط. كانت الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008 بمثابة فشل البنوك والصناعة المصرفية. لقد خاطرت البنوك كثيرًا وأقرضوا نقودا كثيرا وكان من المنطقي أن يتأكد المنظمون من عدم حدوث أزمة مرة أخرى لأن هناك عواقب وخيمة.
على ما سبق، يمكن التأكيد على أن تباطؤ النمو، وارتفاع أسعار الفائدة، والتضخم الشديد، بالإضافة إلى الظروف المشحونة بتحول كبير في الاقتصاد العالمي، تسببا في قيام العديد من المستثمرين، ومديري المحافظ، بتغيير استراتيجياتهم الاستثمارية. وبالتالي، يمكن هنا طرح هذا السؤال، هو: هل المخاوف من تبخر السيولة سيعود مجددا؟، الإجابة نعم، بسبب مستويات الديون المرتفعة، وتناقص دعم السيولة الذي تقدمه البنوك المركزية للأسواق، خاصة وأن هناك شيئان فقط، مهمان حقًا في الاستثمار، يتمثلان في مقدار الأموال الموجودة في النظام، وكيفية توزيعها.
فحساب السيولة العالمية في الوقت الراهن، يشير إلى أنها- حجم النقد والائتمان المتحول حول الأسواق المالية العالمية – تعتبر 172 تريليون دولار، فهذا الرقم المذكور، هو مخزون لجميع مصادر السيولة، بما في ذلك من البنوك المركزية والبنوك التجارية التقليدية، وما يسمى ببنوك الظل التي تقدم الديون قصيرة الأجل. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه عقب الأزمة المالية لعام 2008، تم إلزام البنوك بالاحتفاظ بنسبة رأس مال أكبر لحماية ميزانيتها العمومية من التقلبات والمخاطر، وتم إلزامها بامتلاك أصولًا قليلة، مثل الأسهم والسندات، وهو ما يجعلها أقل مرونة في الاستجابة لطلبات المستثمرين للشراء أو البيع. بالإضافة إلى أنه في أسواق الديون، تراجعت البنوك، على وجه الخصوص، عن حيازة الديون الأكثر تأثرا بارتفاع أسعار الفائدة، وخفضت حيازتها للسندات عالية الجودة التي لها تاريخ استحقاق بعد 10 سنوات أو أكثر. وفي الوقت نفسه، فإن صحة سوق السندات الحكومية الأمريكية – وهي معيار لتريليونات الدولارات من الأصول على مستوى العالم – في أسوأ حالاتها منذ انهيار السوق في مارس 2020، وفقًا لمؤشر بلومبرج.
أين تكمن المواجهة؟:
الجدير بالذكر، أنه منذ الأزمة المالية السابقة، كانت الولايات المتحدة والصين، هما المهيمنين الأساسيين المزودين للسيولة، ولكن نظرًا لأن البصمة المالية الدولية للصين تعتبر صغيرة، فإن تصرفات أمريكا مهمة ومؤثرة للغاية بالنسبة للأسواق العالمية، خصوصا أثناء الأزمات. ولا يغفل علينا أهمية التمويل بالدولار في جميع أنحاء العالم، وتمديد خطوط الدعم بين البنوك المركزية لتوفير الوصول إلى التسهيلات المدعومة بالعملة الأمريكية خلال الطوارئ مثل ما حدث خلال فترة وباء كرونا.
وفقًا لحساباتنا، فإن الإجراءات سابقة الذكر، أدت إلى زيادة بنسبة أكبر من 30% في السيولة العالمية منذ أوائل عام 2020، ومع ذلك، لا تزال هذه الأرقام تحجبها كومة الديون الضخمة التي تقدر في الوقت الراهن بتجاوزها الـ 300 تريليون دولار –وهو ثلاث أضعاف الناتج الإجمالي المحلي- الذي يثقل كاهل الاقتصاد العالمي.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن المشكلة الرئيسية في ما سبق، تكمن في أنه يجب سداد الدين في نهاية المطاف، أو على الأرجح تجديده إذا لزم الأمر. توضيحاً، فإن أخذ متوسط استحقاق الدين يبلغ حالياً خمس سنوات تقريباً، مما يعني وجود مشكلة إعادة تمويل سنوية تبلغ 60 تريليون دولار تتطلب قدرة الميزانية العمومية عالية أو بعبارة أخرى، يجب أن يكون هناك سيولة كبيرة، وهذا يعني أيضاً أن الدورة المالية الحديثة تتحرك مع وتيرة استحقاقات الديون. وهنا يجب الإشارة إلى أن المزيد من السيولة يتطلب المزيد من الديون كضمان، ويحتاج المزيد من الديون إلى مزيد من السيولة لإعادة التمويل.
في النهاية، يمكن القول إن نقص السيولة يجعل من الصعب تجديد الديون الحالية، وفي الوقت نفسه، تحولت أسواق رأس المال في الفترة الأخيرة إلى آليات إعادة تمويل الديون على نطاق واسع، متجاوزة بسهولة دورها الأساسي في تمويل المشاريع الرأسمالية الجديدة. والنتيجة لما سبق، تتمثل في دوامة مذهلة من الديون. وبالتالي من المتوقع إجبار البنوك المركزية على الاستجابة من خلال إعادة تشغيل برامج التيسير الكمي بشكل سريع لدعم الأسواق بشراء الأصول عندما يهددها عدم الاستقرار المالي كما يحدث في الأزمة الحالية. ويكون الغرض من التسهيلات الكمية، هو زيادة المعروض من النقود، مما يجعل الوصول إليه أكثر سهولة كطريقة لتحفيز النشاط الاقتصادي والنمو، وذلك بهدف إبقاء أسعار الفائدة منخفضة وتعزيز الإقراض للشركات والمستهلكين، وتعزيز الثقة في الاقتصاد الكلي. باختصار، إذا لم يتم كسر هذه الدوامة، سيصبح النمو المستقبلي للسيولة العالمية صعب للغاية بسبب أعباء الديون هذه مع انخفاض النشاط التجاري في البورصة والأسواق المالية، ويمكن اتباع سياسات أخرى غير رفع القائدة لوقف التضخم العالمي الحالي.