مفاتيح التسوية: إلى أين يصل مستوى الصدام بين الأطراف الليبية؟

د. سعيد ندا

انتهت فى الـ 21 من يونيو الجارى المهلة الزمنية التى حددها قبل عام ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف لعقد الاستحقاقات الانتخابية الليبية، وخلال هذه المهلة أخفقت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة فى إنجاز هذه المهمة، وهو ما وضع البلاد على مفترق طرق؛ فالفرقاء الليبيون كل يناور على حافة الهاوية مستمسكا بتحقيق أهدافه عبر فرض شروط تهدف إلى زيادة فرص استحواذه على السلطة وتقليل فرص خصمه.

واستعدادا لانتهاء هذه المهلة، قام مجلس النواب الليبي مدعوما بقوى الشرق بإعفاء حكومة الدبيبة من منصبها، وتكليف فتحى باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، فشكلها وأدت اليمين وحاولت الانتقال إلى طرابلس لتسلم السلطة من حكومة الدبيبة، إلا أن الأخير رفض ذلك، وكادت أن تندلع اشتباكات مسلحة، فآثر باشاغا تجنب الحرب وعاد ليتخذ مقرا لحكومته فى مدينة سرت.

وقد أعلن الدبيبة أنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة بدعوى أن المهمة الرئيسية لحكومته، هى إجراء الانتخابات، وأن الـ 21 من يونيه لم يكن إلا موعدا تنظيميا غير ملزم، ويهدف إلى حث الأطراف على تسريع ديناميات العملية السياسية.

غير أن قراءة المشهد الليبي تنبئ عن أن تغيرات فى مواقف بعض الأطراف باتت ممكنة، وباتت مؤثرة للغاية، وعلى الوسطاء الأمميون أو الدوليون أو الإقليميون الدفع باتجاه إحداث هذه التغيرات المحتملة والاستفادة منها والبناء عليها كمفاتيح للتسوية.

مداخل ومفاتيح التسوية:

(*) التوافق بين “النواب” و”الأعلى للدولة”: يعد التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة من أهم مفاتيح التسوية، وقد بات ذلك التوافق ممكنا بعدما أبدى عقيلة صالح وخالد المشرى قدرا لا بأس يه من البراجماتية فى التعاطى مع القضايا العالقة بشأن القاعدة الدستورية التى سيجرى على أساسها الانتخابات، وهو ما كشفت عنه اجتماعات القاهرة الأخيرة، على الرغم من أنها لم تحسم المسألة، ومم يؤكد ذلك النظر موافقة صالح والمشرى على عقد لقاء بينهما فى مقر الأمم المتحدة بجني ففي 28 و29 يونيو الجارى لمناقشة مسودة الإطار الدستوري بشأن الانتخابات، حسبما أعلنت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بليبيا ستيفاني وليامز، ومن شأن هذا التوافق إذا ما حدث التمهيد لرفع الغطاء الأممى عن حكومة الدبيبة، ومنح حكومة باشاغا فرصة المبادرة إلى طرح جدول زمنى لإجراء الانتخابات المرتقبة.

(*) التقارب الثلاثى”صالح””المشرى””المنفى”: جاء إطلاق رئيس المجلس الرئاسى محمد المنفي الرؤية الاستراتيجية لمشروع المصالحة الوطنية فى مؤتمر عقده فى العاصمة طرابلس فى 22 يونيو 2022، وهو اليوم التالى لانتهاء مهلة حكومة الدبيبة وبحضور كلا من عقيلة صالح وخالد المشرى (إلكترونيا)- مؤشرا قويا على توافق هؤلاء الأطراف الثلاثة المبدئي المشروط على إعادة هندسة موازين القوى والموافقة المبدئية على مد المهلة الانتقالية مع إمكانية نقل السلطة التنفيذية إلى حكومة باشاغا ولو مع بعض التعديل على بعض حقائبها ومهامها، فى نوع من المحاصصة المطلوبة والمرغوب فيها فى هذا التوقيت.

(*) الإفراج عن ميزانية حكومة “باشاغا”: يعد تقديم محافظ البنك المركزى الليبي أموال الميزانية التى أقرها البرلمان الليبي لحكومة باشاغا بمثابة الضوء الأخضر لتفعيل هذه الحكومة، وهو ما يعزز قدرتها على قيادة مرحلة انتقالية تفضى إلى تنفيذ الجدول الزمنى المزمع تقديمه لإجراء الانتخابات، بما يسهم فى منحها الشرعية الدولية والأممية، وينبئ عدم إفصاح محافظ البنك المركزي عن موقفه حتى الآن من إفراجه عن الميزانية، أو الربط بين ذلك وبين تحقيق التوافق بين صالح والمشرى والمنفى.

(*) تفكيك جبهة الدبيبة: كشفت محاولة باشاغا دخول طرابلس فى مايو الماضى عن إمكانية تفكك جبهة الدبيبة، وبخاصة بعدما عزل الدبيبة القيادات العسكرية التي شاركت في استقبال حكومة باشاغا عند محاولته دخول العاصمة، ومن بين هؤلاء نائب رئيس جهاز المخابرات العامة ومدير الاستخبارات العسكرية أسامة الجويلي، وقد اعترض هؤلاء القادة العسكريين على قرار الدبيبة، وهو ما أوقع اشتباكات بين مجموعاتهم المسلحة وبين ميليشيات الدبيبة في عدة مناطق، الأمر الذى ينبئ عن إمكانية استقطاب بعض الموالين للدبيبة أو تحييدهم، سواء من القادة العسكريين أو من زعماء القبائل الموالين له، ومن المؤكد أن ذلك سيؤذن بتحجيم جبهة الدبيبة وإضعافها.

ما العمل؟:                                                 

إذا أمكن استغلال مفاتيح ومداخل التسوية سالفة البيان وإحداث التوافق بين الفرقاء الليبيين، وجب حينئذ وضع قائمة بأولويات المرحلة، ووضع جدول زمنى محدد لإنجازها مع الالتزام به، وفى تقديرنا تتمثل هذه الأولويات فى:

(&) اعتماد القاعدة الدستورية التى سيجرى على أساسها الانتخابات، بما يؤمن بناء وتوحيد مؤسسات السلطة مع وضع ضوابط مستقبلية لتنقيح الدستور إن كان لذلك مقتضى، توطئة لجعله دستورا دائما.

(&) تسوية الخلافات بين “صالح – المنفى” حول السلطة التنفيذية التى ستضطلع بما سيتم التوافق عليه من مهام المهلة التى ستمتد إليها المرحلة الانتقالية، بما يؤمن عقد الانتخابات وفقا للجدول الزمنى الذي سيتقرر لها.

(&) اعتماد قانون الأحزاب السياسية وفقا للمعايير الملائمة للبيئة الليبية، بما يؤمن عدم استئثار أى تيار أيديولوجي أو جهوى أو إثنى بالسلطة.

(&) اعتماد النظام الانتخابي الملائم للبيئة الصراعية الليبية، بما يؤمن مشاركة كل الأطراف الليبية الفاعلة وفقا لوزنها السياسى النسبى دون إقصاء.

الخلاصة، كشفت مسارات وتطورات الصراع الليبي الذى تجاوز عمره عقدا من الزمان أنه لا يمكن لأى من أطراف الصراع حسمه لصالحه عسكريا، كما كشفت تلك الفترة الطويلة عن أن التجاذبات “الصفرية” التى يخوضها غالبية الأطراف الفاعلة فى المشهد الليبي، وأن “حافة الهاوية”التى كانوا يقفون عليها جميعا، لا طائل من ورائها إلا إطالة أمد الصراع، وزيادة حدته وتشعب وتعقد أسبابه.

كما كشفت الأحداث ومواقف الأطراف الأخيرة عن نضوج الصراع وقناعة أطرافه بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان، وعن أن كل الأطراف تتعاطى مع القضايا بقدر لا بأس به من البراجماتية وهو ما يمكن معه إعادة هندسة المشهد الليبي والتحكم فى موازين القوى عبر بناء الائتلافات أو التحالفات السياسية انطلاقا من نظرية “الفوز للجميع”، منعا لإقصاء أيا من القوى الفاعلة بما فى ذلك القوى الموالية للغرب والمؤيدة للدبيبة، وأنه يمكن عبر الأدوات المؤسسية كالدستور وقوانين الأحزاب السياسية وقوانين الانتخابات الحيلولة دون استئثار تيار أيديولوجى أو جهوى أو إثنى بالسلطة دون غيره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى