هل مصر رابحة من اتفاقيات الغاز مع أوروبا؟

تعتبر الدول الأوروبية أحد أهم الدول التى تستورد الغاز الطبيعي، وتتزايد حاجتها إليه لاستخدامه فى أغراض التدفئة وسير عجلة الصناعة، حيث استوردت دول الاتحاد الأوروبي نحو 45% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا فى عام 2021، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والارتفاع القياسي الذي شهدته أسعار الغاز، وصعوبات وصوله إلى أوروبا فى ظل العقوبات التى فرضتها الأخيرة على روسيا، أولت أوروبا الاهتمام بالبحث عن مصادر أخرى لتأمين احتياجاتها من هذا المورد، وكان أهمها التوجه نحو أفريقيا ودول الشرق الأوسط الغنية بالاحتياطيات الضخمة من الغاز الطبيعى.

 وفى هذا الإطار، تعززت أهمية صادرات الغاز المصري بعد جهود مصرية مكثفة لتعزيز إنتاج وتصدير الغاز، لتأتي مصر كواحدة من بين الدول التي تتطلع أوروبا إليها للمساعدة في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي. ومن هذا المنطلق، نستعرض إمكانيات مصر فى إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي، والأسباب التى ساهمت فى تحول مصر من استيراد الغاز إلى تحقيق فائض وتصديره للخارج، والإمكانات المصرية المؤهلة لإمداد أوروبا بالغاز، بالتركيز على الاتفاقية الأخيرة التى وقعت فى 15 يونيو 2022 بين أوروبا ومصر، والتى من المتوقع أن تعزز مكانة مصر سياسيا واقتصاديا فى منطقة الشرق الأوسط.

طفرة واضحة:

احتلت مصر المركز الـ 14 عالمياً والخامس إقليمياً والثاني إفريقياً في إنتاج الغاز عام 2020، بحجم إنتاج سنوي بلغ 58.5 مليار م3، وذلك وفقاً لبيانات شركة “بريتش بتروليوم” وقد بلغت القدرة الإنتاجية لمصر من الغاز الطبيعي بفضل مشروعات تنمية حقول الغاز 73.4 مليار م3 لعام 2021. هذا وقد صدرت مصر إلى دول أوروبا أكثر من مليوني طن متري من الغاز فى عام 2021، ارتفاعا من 270 ألف طن متري لعام 2020، حسب مؤسسة “ستاندرد أند بورز” .

تطور إنتاج الغاز الطبيعي لمصر خلال الفترة (2009-2019)

وتعود أهم أسباب زيادة الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي إلى ما يلى:

(*) مشروعات تنموية فى مجال الغاز: وتتمثل أبرز تلك المشروعات في مشروع تنمية حقل ظهر بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ 28 مليار م3، حيث يعتبر حقل ظهر أكبر اكتشاف تم في البحر الأبيض المتوسط ​​على الإطلاق. ويقدر الإنتاج بـ 30 تريليون قدم مكعب. كما يوجد أيضًا حقل نوروس للغاز في دلتا النيل والذي ينتج 32 مليون متر مكعب يوميًا. وحقل “أتول “، هو حقل غاز آخر في شرق الدلتا ينتج 350 مليون متر مكعب في اليوم و 10000 برميل من المكثفات، ومشروع تنمية حقل ريفين بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ 8.7 مليار م3، كما تمتلك مصر مصنعين لإسالة الغاز، الأول في محافظة دمياط، بينما الثاني يحمل اسم “أدكو” في محافظة البحيرة غرب الدلتا.

(*) عقد اتفاقات جديدة: خلال الأعوام القليلة الماضية، تم توقيع 99 اتفاقية بحرية بترولية جديدة مع الشركات العالمية للبحث عن البترول والغاز باستثمارات بلغ حدها الأدنى نحو 17 مليار دولار، ومِنح توقيع  يقدر بنحو 1.1 مليار دولار لحفر 384 بئراً خلال الفترة من يوليو 2014 حتى يونيو 2021، وذلك بعد التوقف عن توقيع الاتفاقيات منذ عام 2010 وحتى أكتوبر 2013. كما تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص في سبتمبر 2014، فيما تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية في أبريل 2016، لتسمح ببدء مزاولة نشاط البحث عن البترول والغاز لأول مرة في هذه المنطقة البكر الواعدة، بينما تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع اليونان في أغسطس 2020. وفي أبريل 2022، وقعت الحكومة المصرية اتفاقا مع شركة “إيني” الإيطالية لزيادة وتكثيف التعاون في إنتاج الغاز وتصديره إلى الخارج.

(*) جهود محلية: بذلت مصر جهوداً كبيرة لدخول قائمة أكبر موردي الغاز المسال للأسواق الكبرى المستهلكة للغاز، وذلك بعد تحقيقها الاكتفاء الذاتي منه من خلال إطلاق استراتيجية قومية تقوم على جذب الاستثمارات الأجنبية في مجال البحث والاستكشاف عن البترول والغاز، وتكثيف طرح المزايدات العالمية. حيث تم تنفيذ 30 مشروعاً لتنمية حقول الغاز منذ يوليو 2014 حتى سبتمبر 2021، بإجمالي تكلفة استثمارية بلغت نحو 514 مليار جنيه.

(*) تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط: أطلقت الحكومة المصرية منتدى غاز شرق المتوسط ​​في يناير 2019 ليتكون من (مصر وإسرائيل وإيطاليا واليونان وقبرص والأردن)، والذي مثل نقطة محورية وفاصلة في جهود مصر لتعزيز قدراتها الإنتاجية والتصديرية، لتصبح بذلك لاعباً أساسياً في سوق الغاز العالمي، كما يمثل منصة للتعاون في مجال الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط.

(*) اكتشافات جديدة: تم مؤخراً تحقيق العديد من اكتشافات الغاز الطبيعي العملاقة لتلبية احتياجات السوق المحلى المتزايدة، ومنها ” نورس ” بدلتا النيل، وكشف شمال الإسكندرية وغرب دلتا النيل بالبحر المتوسط، وكشف ” ظهر ” الذي يعتبر أكبر كشف غاز طبيعي بالبحر المتوسط ومن أكبر اكتشافات الغاز الطبيعي بالعالم. وفى منتصف ديسمبر 2021- تم ربط 150 مليون قدم مكعبة يوميًا من الغاز، بخطوط الإنتاج في مصانع أبوقير، ما يضع اكتشافات الغاز في شمال إدكو والعامرية على خريطة الإنتاج.

الصادرات المصرية:

تعتبر مصر حالياً المصدر العربي الأسرع نمواً للغاز المسال، إذ بلغ إجمالي صادرات الغاز الطبيعي المصري 3.5 مليون طن خلال النصف الأول من العام المالي 2021-2022، وكانت بيانات صادرة عن منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول “أوابك” في نوفمبر 2021، قد كشفت عن ارتفاع صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال خلال عام 2021 بنسبة 78% مقارنة بنفس الفترة من عام 2020. وبلغت صادرات الغاز الطبيعي المسال المصرية خلال 2021 نحو 6.5 مليون طن مقابل 1.5 مليون طن عام 2020، بمعدل نمو سنوي 385%، وهي نسبة النمو الأعلى عالميًا مقارنة بباقي الدول المصدرة للغاز الطبيعي المسال خلال عام 2021.

وبحسب بيانات وزارة البترول المصرية، من المتوقع ارتفاع صادرات مصر من الغاز الطبيعي والمسال إلى 7.5 مليون طن بنهاية العام المالي الجاري 2022، بفضل أن مصنعي الإسالة “إدكو، دمياط” يعملان بكامل طاقتهما الإنتاجية. كما أن هناك خططا لإضافة 450 مليون قدم مكعب غاز 17,2 ألف برميل متكثفات خلال العام المالي المقبل 2023 . ولفتت البيانات إلى أن إجمالي استثمارات البحث والتنمية والإنتاج في قطاع الغاز في مصر سيتجاوز 1.6 مليار دولار خلال العامين الحالي والمقبل، وتطمح مصر إلى التحول لمركز طاقة يجمع تجارة وتداول النفط والغاز، خاصة في ظل تزايد الدور الذي يؤديه قطاع الغاز الطبيعي في قيادة النمو والتطور في الاقتصاد المصري.  وأكدت وكالة بلومبرج أن الصادرات المصرية من الغاز المسال ستنتعش بفضل إعادة تشغيل محطة دمياط لإسالة الغاز،  بينما أكدت الإيكونوميست أن مصر تعد واحدة من المصدرين العالميين القلائل للغاز المسال الذين زاد حجم مبيعاتهم خلال عام 2021.

حدود القدرة:

تعتبر روسيا واحدة من أكبر الدول التى تمتلك احتياطيات من النفط والغاز الطبيعي في العالم، حيث تمثل نحو 25٪ من واردات الاتحاد الأوروبي من النفط، وحوالي 40٪ من واردات أوروبا من الغاز. وبعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى دراسة إمكانية المضي قدما في تطبيق حلول على المديين المتوسط والطويل لاستبدال الغاز الروسي عن طريق الغاز الأفريقي، ومنها مصر التى تمتلك عدة مزايا تؤهلها لتأمين جزء من احتياجات أوروبا، خاصة وأن مصر قد وضعت نصب أعينها خطة طموحة للتحول إلى مركز إقليمي لتجارة وتداول الغاز، والمساهمة في تأمين احتياجات الأسواق العالمية، لا سيما مع تنامي الطلب في الأسواق الأوروبية على الغاز المسال، وذلك بعد نجاحها في تحقيق الاكتفاء الذاتي منه. ورغم تضرر الاقتصاد المصري نسبيا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، باعتبارها واحد من أكبر مستوردي القمح فى منطقة الشرق الأوسط، إلا أن مخزونات الغاز الطبيعي والمسال تفتح مجالا أوسع لتعزيز مكانة الاقتصاد المصري، كما تحظى بالاهتمام الأوروبي لتجعلها شريك استراتيجي لهم.

وقد أكدت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية، أن مصر لديها إمكانات فى قطاع الغاز تؤهلها من زيادة الإمدادات على المدى المتوسط والطويل في ضوء التعاون ما بين دول شرق المتوسط من خلال منتدى ” دول غاز شرق المتوسط “، نظرا لامتلاكها لاحتياطيات كبيرة من الغاز، حيث تعد مصر خامس أكبر مالك لاحتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في إفريقيا. كما أن الصادرات المصرية وصادرات دول المنتدى يتوافر لها مناخ مشجع لملء جزء من الفراغ الذي أحدثته الحرب الروسية الأوكرانية في سوق الطاقة.  يضاف إلى ذلك كون مصر بإمكانها قيادة ملف الطاقة والتنسيق بفعالية مع الدول الأعضاء في المنتدى لتلبية الطلب الأوروبي المتزايد.

هذا فضلاً عن أن اكتشافات الغاز الأخيرة وضعت لمصر قيمه عالية لدى أوروبا، لأن مصر الوحيدة التي لديها شبكة خطوط ومحطات إسالة على درجة كبيرة من الكفاءة، وتعد اللاعب المهيمن في مجال الطاقة في شرق المتوسط، مما يؤهل مصر لتوقيع العقود قريبًا لمناطق استكشاف بحرية جديدة غرب الدلتا . وتسعى مصر إلى أن تصبح مركزا إقليميا للطاقة عبر تصدير فائض إنتاج الغاز الطبيعي إلى جانب تصدير فائض الدول المجاورة من الغاز، عبر محطتي الإسالة الواقعتين على شاطئ البحر المتوسط بإدكو ودمياط. خاصة فى ضوء توقيع  مصر مع قبرص اتفاقاً في مايو 2018 لمد خط أنابيب من حقل “أفروديت” القبرصي، الذي تقدر احتياطاته بين 3.6 تريليون و6 تريليونات قدم مكعبة تقريباً، بغرض تسييلها في مصر وإعادة تصديرها إلى أوروبا.

ماذا تستفيد؟:

أبرمت كل من مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي الأربعاء 15 يونيو 2022، اتفاقا ثلاثيا في القاهرة حول تجارة ونقل وتصدير الغاز الطبيعي تحت مظلة “منتدى غاز شرق المتوسط” وتأتي، هذه الخطوة فى محاولة أوروبية لخلق أسواق غاز جديدة. ويهدف التعاون إلى نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا بعد تسييله في المحطات المصرية المعدة لذلك. وفى الإطار ذاته، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية بتمويل فوري لمصر قيمته 100 مليون يورو لدعم الأمن الغذائي، إلى جانب تمويل قيمته ثلاثة مليارات يورو لدعم مشروعات محلية في المنطقة.

وتساعد تلك الاتفاقية فى أن تستفيد مصر اقتصاديا من الغاز بشكل جيد عبر عدة طرق تشمل تسييل الغاز المصدر من الدول المجاورة ومحطات الإسالة التي تشارك الدولة ملكيتها، إلى جانب رسوم العبور عبر الشبكة القومية للغاز. كما أن الاتفاقيات تضيف لمصر دور مؤثر بين بعض الأطراف ودول شرق المتوسط. فضلا عن كون دعم الاتحاد الأوروبي بمثابة مساعدة على تحول مصر إلى مقر إقليمي لتداول الطاقة، الذي يساهم في زيادة الصادرات المصرية من الغاز ومشتقاته إلى أوروبا، وقد يؤدي إلى زيادة الاستثمار في إقامة محطات الإسالة بالبلاد.

يضاف إلى ذلك، أن التوقيع الذي تم مع مصر والمفوضية الأوروبية يمثل رسالة مهمة لنجاح التعاون تحت مظلة المنتدى، الذي يؤكد دوره المحوري في تأمين جانب من إمدادات الطاقة لأوروبا، ويدعم دور مصر كلاعب مهم في سوق الغاز، الذي يأتي في سياق جهود تعزيز الشراكة مع القوى الإقليمية بالمنطقة في عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك، وفي مقدمها ملف الطاقة”. وعليه، تعد عقود الغاز الطبيعي المسال طويلة الأجل، هي الأكثر أهمية لمصر لأنها ستعمل على ترسيخ مشروعات شرق البحر المتوسط بين القاهرة وإسرائيل وقبرص، فضلا عن الحاجة إلى تشجيع الشركات العاملة في المنطقة على زيادة الاستثمارات في الاكتشافات الجديدة لرفع الإنتاج واستغلال الطلب المتزايد والفرصة المتاحة حالياً. كما أن هذا الاتفاق يفتح أفاقا للعلاقات في المدى الطويل مع مصر في مصادر أخرى منها الهيدروجين الأخضر، والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها من الطاقات المتجددة.

وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن فرص مصر قوية خلال المرحلة المقبلة لتصدير الغاز المسال إلى أوروبا، وبالتأكيد ستساهم فى تعزيز احتياجات القارة الأوروبية بجزء محدود، ويبقى على الأخيرة خلق وجهات جديدة لجلب الغاز غالبا ستكون من أفريقيا ودول الشرق الأوسط الأخرى. كما أن اتفاقية التصدير الجديدة ستعود على الدولة المصرية بفوائد عديدة أهمها استفادة مصر من الغاز بشكل جيد عبر عدة طرق، يساعدها فى ذلك ما مهدت إليه الاتفاقيات الأخيرة لمصر مع اليونان وقبرص الطريق لإنشاء خطوط أنابيب جديدة تحت البحر بما يسمح بزيادة صادرات الغاز المصري. وكل ذلك يصب ايجابيا لصالح الاقتصاد المصري، الذي تأثر مؤخرا بانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية.

 

 

د.جيهان عبد السلام

رئيس وحدة دراسات مصر -أستاذ مساعد الاقتصاد بجامعة القاهرة. -حاصلة على دكتوراه الاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا. -عضو هيئة تحكيم البحوث الاقتصادية لدى المركز الجامعي لترامنست. -عضو هيئة تحكيم لدى كلية الاقتصاد والإدارة وعلوم التيسير. -عضو هيئة تحكيم لدى جامعة الشهيد لخضر. -خبير اقتصادي وكاتبة في العديد من المجلات العلمية ومراكز الدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى