حدود آمنة: تأثير التطورات العالمية على موقف الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر؟

في السادس من يونيو الجاري، أعلن البنك المركزي المصري انخفاض احتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى 35.5 مليار دولار بنهاية مايو 2022 مقارنة بـ 37.123 مليار دولار في أبريل للعام ذاته. ويعد هذا الانخفاض، هو الثاني من نوعه في رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر منذ نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك بعد فترة طويلة شهد خلالها الاحتياطي المصري زيادات متتالية، حيث كان الاحتياطي المصري، قد تراجع بأكثر من ثلاثة مليارات دولار ليسجل نحو 37.082 مليار دولار في نهاية مارس 2022 تزامنا مع قيام البنك المركزي بخفض قيمة الجنيه المصري بمقدار 17%، مقابل 40.99 مليار دولار نهاية فبراير السابق.
وفقاً للأرقام سابقة الذكر، وما أعلنه البنك المركزي المصري في هذا الشهر، يستعرض هذا التحليل تطور احتياطيات مصر من النقد الأجنبي، مع التركيز على أسباب الانخفاض الأخيرة فى هذه الاحتياطيات، وبالتالي مناقشة أبرز الفرص المتاحة لمصر لدفع عائداتها من النقد الأجنبي نحو الارتفاع.
تطور الاحتياطي النقدى الأجنبي لمصر:
يتشكل الاحتياطي الأجنبي لمصر من حزمة من العملات الدولية الرئيسية، هي الدولار الأميركي واليورو، والجنيه الإسترليني والين الياباني واليوان الصيني، ويعتبر احتياطي النقد الأجنبي عنصر الأمان للدول أثناء الأزمات، سواء لاستيراد السلع من الخارج أو لسداد الالتزامات الخارجية. وقد سبق وبلغ الاحتياطي النقدي لمصر أقل مستوى عند نحو 9.14 مليار دولار عام 2012 متأثرا بالأحداث السياسية والأمنية في مصر حينذاك، ثم عاود الارتفاع ليصل إلى 57.44 مليار دولار عام 2019 بفضل الإجراءات الاقتصادية الإصلاحية التي قامت بها الحكومة المصرية، ثم تراجع إلى 97.38 فى عام 2020 بفعل تداعيات جائحة كورونا.
شكل رقم (1) تطور احتياطي النقد الأجنبي خلال الفترة (1950-2020)
أسباب وعوامل الانخفاض:
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تزايدت القيود الاقتصادية التي يعانى منها العالم أجمع ومنه مصر، فمنذ مارس حتى مايو 2022، تواجدت العديد من الأسباب التي ضغطت على الاحتياطيات الأجنبية المصرية، ويتمثل أهمها فيما يلي:
(*) تراجع السياحة: انخفض حجم السياحة الوافدة إلى مصر، وخاصة أن السياح الأوكرانيين والروس شكلوا نحو 20 % إجمالي السياح الوافدين إلى مصر في السنوات الأخيرة. مما أدى إلى تراجع عائدات السياحة ووضع المزيد من الضغوط على سعر الصرف واحتياطي النقد الأجنبي. وذلك بعد ما كانت عائدات السياحة تسجل ارتفاعا نحو5.8 مليار دولار بالنصف الثاني من عام 2021، مقارنة بنحو 1.8 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2020.
(*) تراجع التدفقات الأجنبية: شهدت رؤوس الأموال الأجنبية المتدفقة إلى مصر انخفاضا بفعل تداعيات الحرب الروسية، سواء كانت استثمارات مباشرة، التي شهدت تراجعا نسبيا منذ جائحة كورونا أو استثمارات غير مباشرة، ممثلة فى الاستثمارات في أذون الخزانة والسندات، والتى شهدت تخارج بـ20 مليار دولار، ما تسبب في تزايد عجز ميزان المعاملات الجاري، وبالتالي تم استخدام جزء من احتياطيات النقد الأجنبي لتغطية خروج الاستثمارات الأجنبية والمحافظ الدولية.
(*) سداد الالتزامات الدولية: قامت الحكومة المصرية فى مايو 2022 بسداد أقساط قروضها وفوائدها في المواعيد المحددة لها، دون أن تتأخر عن سداد أي قسط على الرغم من الظروف الاقتصادية التي تمر بها جراء تداعيات الأزمة الأوكرانية، والتي قدرت بنحو 2 مليار دولار، وتضمنت هذه المديونية المسددة الآتي: استحقاق كوبونات لسندات حكومية صادرة عن وزارة المالية، واستحقاق كوبونات لسندات حكومية صادرة عن وزارة المالية، مما أثر على حصيلة النقد الأجنبي المتاح، ولكن أبقى مصر فى قائمة الدول الملتزمة بسداد أقساط ديونها دون أي خلل أو تقصير.
(*) واردات مصر من القمح والطاقة: تعتبر روسيا من أكبر عشرة مصادر للواردات المصرية، كما أن أكثر من نصف واردات مصر من الحبوب وخاصة القمح والطاقة مصدره من روسيا. وقد أدت الحرب إلى ارتفاعات ضخمة في أسعار تلك الواردات، حيث سجلت أسعار النفط العالمي أكثر من 100 دولار للبرميل مقابل 62 دولاراً، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المحروقات في مصر، وبالتبعية سيؤثر سلبا على كل القطاعات المحلية وارتفاع أسعار جميع السلع، كذلك الحال أسعار القمح التي ارتفعت بنسب تتجاوز الـ 40%، وكل ذلك أثر بالسلب على حصيلة النقد الأجنبي التى استخدمت مؤخرا لتأمين احتياجات مصر من السلع الاستراتيجية الهامة.
فرص متاحة لزيادة عائدات النقد الأجنبي:
على الرغم من تلك العوامل الاقتصادية التى أثرت سلبا على حصيلة النقد الأجنبي فى مصر، فمازال فى الحدود الآمنة لأكثر من خمسة أشهر مقبلة، كما أن مصر أمامها عدة فرص تسعى حاليا إلى استغلالها بشكل كبير بما يساعد على تعزيز النقد الأجنبي بها، وأهما تصدير الغاز، الذي أصبح محل الاهتمام العالمي وخاصة الأوروبي، مما يساعد مصر على تحقيق طموحاتها في ما يتعلق بتصدير الغاز، خاصة أنها تملك احتياطيات تبلغ نحو 77.2 تريليون قدم مكعب وفقًا لدليل موارد الطاقة لعام 2021 الصادر عن إدارة التجارة الدولية، وتعتبر خامس أكبر مالك لاحتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في إفريقيا، وقد برزت البلاد كوجهة مربحة لواردات الغاز الطبيعي المسال وخطوط أنابيب الغاز الطبيعي بعد الجهود المصرية الأخيرة فى تحسين اكتشافات الغاز وتطوير خطوط نقله.
كما يساهم ارتفاع قيمة تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال الربع الأول من عام 2022 بنحو 8% مقارنة بالربع الرابع من العام الماضي فى تحسين النقد الأجنبي. حيث شهدت تلك التحويلات ارتفاع خلال شهر مارس 2022 نحو 3.3 مليار دولار بمعدل زيادة بلغ 12.8% (على أساس سنوي) مقابل نحو 2.9 مليار دولار خلال شهر مارس 2021. كذلك تتطلع مصر إلى جذب المزيد من السائحين الوافدين من أمريكا اللاتينية وآسيا مع تسيير رحلات دولية جديدة فى محاولة للحد من التأثير الذي لحق بصناعة السياحة الرئيسية ، الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
وكل ذلك يضاف إلى مجمل الجهود المصرية المبذولة لمحاولة استهداف معدل نمو متوازن رغم التداعيات العالمية عند مستوى 5.5%، وخفض عجز الموازنة إلى مستوى 6.1 % من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى خفض نسبة دين أجهزة الموازنة إلى نحو 80.5% . من خلال استمرار الحكومة في سياسة التسعير السليم للسلع والخدمات، والتوسع في إعداد ومتابعة الموازنة على أساس موازنة البرامج والأداء، والعمل على توسيع القاعدة الضريبية، واستمرار تعظيم العائد من أصول الدولة، والتقدم في برامج إعادة هيكلة الأصول المالية للدولة، ورفع كفاءة وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام .
وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول بأن الدور الرئيسي لاحتياطيات النقد الأجنبي، هو حماية الدولة وقت الأزمات، ومن الطبيعي تراجعه نسبيا فى ظل تداعيات الحرب الروسية التى طالت العالم أجمع. وعلى الرغم من ما تفرضه من تحديات، إلا أن سياسات مصر الاقتصادية والهيكلية شكلت حائط صد ساهم في التخفيف من حدة الآثار السلبية للأزمة على مصر، واستيعاب الصدمات الخارجية، والحفاظ على صلابة الاقتصاد المصري، مما أدى إلى إشادة من جانب المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي رفع توقعاته لنمو الاقتصاد المصري، خلال العام المالي الجاري 2021-2022 إلى 5.9 % ، وتوقع الصندوق بأن تحقق مصر ثاني أعلى معدل نمو بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلول العام المالي 2022/2023. كما أرجعت وكالة “فيتش” تثبيت التصنيف الائتماني لمصر عند(+B) مدعوما بـسجلها الأخير في الإصلاحات المالية والاقتصادية.
كما أكد البنك المركزي أنه في ظل التطورات الحالية يواصل مراقبة وتقييم الوضع العالمي عن كثب لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة أي تداعيات قد تحدث في المستقبل. كما أن ارتفاع سعر الدولار الجمركي يحد من قيمة الاستيراد، التي تعتبر أحد عوامل استنزاف احتياطي النقدي الأجنبي، فضلا عن اهتمام الدولة المصرية بتعميق التصنيع المحلي وتعظيم الصناعة الوطنية ودعم الصناعة المحلية والقطاع الخاص وتقديم كافة التيسيرات للقطاع الإنتاجي فى محاولة لدفع النمو الاقتصادي ورفع عائدات الدولة من النقد الأجنبي.