توبة الأصوليين.. مراجعة فكرية أم معالجة نفسية؟
عمرو فاروق- خبير شئون التطرف والإرهاب.
نفّذ عدد من الدول العربية والأوروبية برامج شاملة في محاولة لاحتواء التيارات الأصولية الراديكالية وعناصرها، وبهدف إعادة تأهيلهم وتقليل الفجوة بينهم وبين الدوائر المجتمعية التي نشأوا في ظل ظروفها وأبجدياتها المعيشية والاقتصادية.
ورغم، عملية الاحتواء التي استخدمتها كل النماذج العربية والدولية في إعادة تأهيل هؤلاء، إلا أن تلك المعالجة تظل منقوصة، خاصة وأن إشكالية المعالجة النفسية للعائدين وكل عناصر التيارات الأصولية الراديكالية، التي تمثل عصب قضية “التوبة”، بل العمود الأساسي في بناء العلاقة بين المجتمع والقيادات التكفيرية التائبة- تظل غائبة، وتحتاج إلى حل عاجل لكل هؤلاء، الذين تحولت مشكلتهم في التعامل الآمن مع المجتمع إلى معضلة نفسية معقدة ومركبة في الدوائر والأوساط المجتمعية التي تتعامل معهم بشكل دائم.
وعلى ما سبق، وفي ظل احتياج تلك الإشكالية إلى مكاشفة ومعالجة نفسية عاجلة في ظل تصدر بعض هؤلاء للمشهد الإعلامي والسياسي والبحثي، إذ تشكل في عقلهم اللاواعي قناعة بأنه على المجتمع أن يسدد لهم فواتير ما قضوه من سنوات حياتهم داخل السجون والمعتقلات– يبقى السؤال الرئيسي، وهو: توبة الأصوليين.. مراجعة فكرية أم معالجة نفسية؟.
معالجة منقوصة:
الكثير من البرامج التي تم اعتمادها ركزت في شكل عام على محورين مهمين جداً، لكنها أهملت محوراً ربما يُعد الأهم والأكثر نتيجة وفاعلية من مماثليه. (-) الأول، يتمثل في محور الانفصالية التنظيمية، ومراجعات السرديات الفكرية المتطرفة، (-) بينما تمثل المحور الثاني، في تهيئة الظروف المعيشية الاجتماعية والاقتصادية على مستوى المسكن الملائم، والوظيفة المستقرة، فضلاً عن عملية المتابعة والمراقبة الأمنية الروتينية.
بينما غفلت المؤسسات المعنية عن قضية احتواء الأصوليين في إطار إصلاح المنهجية الفكرية، ما يمثل محور الطب النفسي، والذي يعد العامل الأهم والمهيمن على المشهد السلوكي في التحولات والمنحدرات الفكرية للفرد من الحالة الطبيعية إلى التطرف والتشدد، والانصياع للغير تحت مزاعم السمع والطاعة وفرضية الانتماء الديني، والبحث عن المثالية الروحية.
فالكثير من التجارب المؤسسية المتخصصة والتي تعمل على انتزاع الإسلاميين والأصوليين من براثن التطرف وشرعنة العنف المسلح، ربما همشت أو لم تعطِ منحى المعالجة النفسية مساحة متساوية بالقدر نفسه من الاهتمام لقضية المراجعة الفكرية والإيديولوجية الدينية لدى المتشددين. فلا يمكن لشخص طبيعي، أن يتجرد من اتزانه النفسي والعقلي، وينتمي لتنظيم سري يسلب إرادته وقراراته، ويشكل وعيه وعقليته وفقاً لمفردات وأدبيات فكرية صُنعت ووضُعت في أيدي بشر، بهدف تطويع وإخضاع المريدين من دون تفكير أو مراجعة.
وعلى مدار تاريخها أصبحت الكيانات والتنظيمات السرية بمثابة بيئة حاضنة لأعضائها في تعويض النقص والأمراض النفسية المستعصية، والأزمات الشعورية المركبة، في ظل التعايش مع مرادفات “العزلة الشعورية”، فتحول أحدهم لزعيم مقدس من قبل الأتباع والدراويش والجهلاء، بعد تمكنه من إخضاعهم لسياسته ونفوذه، تحت لافتة ما يسمى بـ”ظاهرة الإحياء الديني”، وأصبح آخر خصماً لجهاز أمني قوي، ومنهم من جاهر بعدائه لرئيس الدولة وتوعده على مرأى ومسمع من الجميع، ومنهم من عبّر عن كبته وضغينته في عمليات انتقامية بالقتل والتفجير تجاه رموز وطوائف المجتمع.
كما صنعت الشهرة منهم نجوماً ورموزاً وقادة للحركة الإسلامية، أمام الرأي العام السياسي والشعبي، من خلال اهتمام وسائل الإعلام العربية والدولية، وتسليط الضوء على أفعالهم الإجرامية التي ألبسوها رداء الدين والشريعة، لخداع وإيهام البسطاء والعوام بأنهم حراس العقيدة، وسفراء العدالة الإلهية، ووكلاء الله في أرضه.
تأثير عصبي ممتد:
وحذرت دراسة صادرة عن مجموعة من المراكز البحثية الأميركية، من ارتباط الأزمات النفسية والميل لارتكاب العمليات المسلحة، دفاعاً عما يرونه “قيماً مقدسة”، إذ إن التأثير العصبي الناتج من التهميش والإقصاء، يساهم في تحوُّل قضايا فرعية إلى قضايا مقدسة تستحق القتال من أجلها، ما قد يدفع الشخص للانخراط في تنظيمات إرهابية. بل إن نكسة 1967 التي تعرضت لها الدولة المصرية على يد الكيان الصهيوني، كانت أحد العوامل النفسية في صعود ما يسمى بـ”تيار الصحوة الإسلامية”، وإحداث تحولات فكرية وجذرية في المنطقة العربية بالكامل.
كما أن الكثير من المرجعيات الفكرية للتنظيمات الأصولية، فسرت القرآن الكريم وآياته، واستنطقت السيرة النبوية، وفقاً لمعطيات ومنحدرات فكرية وعلل نفسية، تعايشوا في ظلها داخل سراديبهم التنظيمية لسنوات طويلة، وحاولوا إسقاطها على الواقع السياسي والاجتماعي للدولة.
المتابع لتاريخ وسيرة قيادات الحركات الأصولية يجد ترجمة حقيقية لحالة النرجسية المستعصية والزعامة المطلقة، ابتداء من حسن البنا وسيد قطب وحسن الهضيبي وزينب الغزالي، مررواً بشكري مصطفى، زعيم “جماعة التكفير والهجرة”، وشوقي الشيخ، زعيم تنظيم “الشوقيون”، ومجدي الصفتي، مؤسس تنظيم “الناجون من النار”، ومروان حديد، مؤسس “حركة الطليعة” بسوريا، وصالح سرية قائد تنظيم “الفينة العسكرية”، انتهاء بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وهشام عشماوي، وأبو بكر البغدادي، وأبو محمد الجولاني، وغيرهم من أباطرة التكفير والعنف المسلح.
كانت التجربة المصرية في مقدم التجارب التي تناولت قضية احتواء الأصوليين، والتي بُلورت داخل جدران السجون مع عناصر الجماعة الإسلامية، تحت عنوان “تصحيح المفاهيم” عام 2002، وتبعتها بتنظيمات الجهاد المصري من خلال وثيقة “ترشيد العمل الجهادي” عام 2007، التي كتبها الدكتور سيد إمام، وقاد زمام تلك المبادرات اللواء أحمد رأفت، أحد العقول الأمنية المصرية التي انحازت بقوة لما يسمى بـ”المراجعات الفكرية”، في محاصرة موجات العنف في تسعينات القرن الماضي، وبناء عليها تم الإفراج عن عدد كبير منهم تدريجياً.
وكانت تجربة “لجنة المناصحة” التي طرحتها المملكة العربية السعودية، نموذجاً معبراً عن مشاريع مكافحة التطرف الفكري عام 2004، وتم تطويرها عام 2006 من خلال تأسيس مركز محمد بن نايف، لإعادة تأهيل معتنقي الأفكار المتطرفة، ودمجهم في المجتمع. إضافة إلى تدشينها برنامج أخر في (سبتمبر) 2014، تحت مسمى “البصيرة”، للرد على الأفكار المشوهة من خلال رصد الوثائق والمواقع الإلكترونية والكتب التي تعتمد عليها التنظيمات المتطرفة في شرعنة العنف والتطرف، ونشر أطروحات عقائدية مضادة عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والمؤسسات الدينية والتعليمية.
إلى جانب ذلك، تأتي تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، من خلال تأسيس مركز التميز الدولي لمكافحة التطرف العنيف “هداية”، في (ديسمبر) 2012، باعتباره مركزاً عالمياً يضم عدداً من المنظمات والمؤسسات والمراكز الدولية والإقليمية في إطار الشراكة مع المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، فضلاً عن إطلاق “مركز صواب”، في (يوليو) 2015، كمبادرة تفاعلية لدعم جهود التحالف الدولي في حربه ضد التطرف والإرهاب.
وفي الجزائر ايضاً، أطلقت الأجهزة الأمنية في (فبراير) 2014، مبادرة “التوبة” والتي تُتيح للمتطرفين غير المتورطين في العنف، الإستفادة من العفو القضائي استناداً إلى قانون المصالحة الوطنية في الجزائر الصادر عام 2005.
في حين قدمت السلطات المغربية برامج تأهيل ومراجعة فكرية لعدد كبير من العناصر المتطرفة، عقب تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، وفي عام 2016 أطلقت السجون المغربية برنامج “مصالحة” لمكافحة التطرف، بالاشتراك مع الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، لتأهيل العناصر التكفيرية، اعتماداً على مقاربة ثلاثية تمثلت في نبذ العنف، وقبول التفسيرات التعددية للنصوص الدينية، والاعتراف بشرعية النظام السياسي.
ورغم الجهود المبذولة على مدار السنوات الماضية من قبل السلطات المغربية، فإنها لم تحقق نتائجها في شكل سليم، إذ أوقفت أكثر من 3000 جهادي مشتبه بهم، وجرى تفكيك 186 خلية إرهابية، منها 65 خلية مرتبطة بتنظيم “داعش”، تولى قياداتها عدد كبير من مرجعيات تكفيرية سابقة تم تأهيلها في برامج مكافحة التطرف التي نفذتها من قبل، فتم تسجيل نحو 220 حالة عودة، بجانب انضمام 1300 مغربي لمعسكرات القتال في سوريا.
تجارب دولية متنوعة:
وهناك تجارب متنوعة لدى كل من هولندا وسلوفاكيا وألمانيا، وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، من خلال مركز إعادة تأهيل المتطرفين وإدماجهم مجتمعياً.
ربما اعتبر القائمون على تلك التجارب أن عملية الاعتراف بالجرائم التي ارتكبت أمام الرأي العام هي بمثابة تبرئة من الذنب وباب من أبواب التوبة النصوحة، وخروج من غياهب التطرف وشرعنة العنف المسلح، وصك لتعايشهم واندماجهم في الدوائر المجتمعية المتعددة، لكن، رغم أهمية ذلك، لم تثبت في الحقيقة نجاحها في شكل كامل لأسباب مختلفة.
بعض هذه الجماعات والمنتسبين إلى مشاريعها الفكرية، التحفوا بما يسمى بعباءة “التقية”، هرباً من جحيم السجون، وإعداد العدة مرة أخرى لمجابهة الأنظمة والمجتمعات، وتحولوا إلى بؤرة نشطة لنشر المنهجية التكفيرية، وسماسرة متجولين لإمداد معسكرات القتال في سوريا والعراق وليبيا بالمتطرفين، لا سيما مرحلة ما بعد حوادث “الربيع العربي”، إذ كشفت تلك التنظيمات عن وجهها الحقيقي، وأعلنت ولاءها للمشروع الراديكالي المتطرف، في مقابل التحاف بعضهم ظاهرياً بالمضامين السياسية والديمقراطية التي كفروها تاريخياً، لكنهم وجدوها ملاذاً آمناً لتحقيق مآربهم في الوصول للسلطة.
وبعيداً من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لقيادات وعناصر الجماعات الإرهابية، وانتماء بعضهم لعائلات اجتماعية مرموقة وأسر ميسورة، فإن الكثير منهم يعانون من أمراض وعلل نفسية جسيمة، جعلتهم ينساقون خلف زعامات وهمية، وينتمون لكيانات تفرض آلياتها السرية ووضعياتها المختلفة عن الحياة السوية، إلى جانب معاناة العديد منهم داخل أروقة السجون وعنابرها، والتي ساهمت في زيادة الخلل النفسي والاضطراب العقلي، فضلاً عن أزمة “وصمة التطرف”، ما يدفعهم للسخط على المجتمع والدولة بمؤسساتها حتى في ظل تهيئة الأجواء المعيشية.
تمثل إشكالية المعالجة النفسية، عصب قضية “التوبة”، بل العمود الأساسي في بناء العلاقة بين المجتمع والقيادات التكفيرية التائبة، التي انخرطت في برامج المراجعات الفكرية، لكنها فعلياً تحولت لمعضلة نفسية معقدة ومركبة في الدوائر والأوساط المجتمعية التي تتعامل معهم بشكل دائم، وتحتاج الى مكاشفة ومعالجة نفسية عاجلة في ظل تصدر بعضهم للمشهد الإعلامي والسياسي والبحثي، إذ تشكل في عقلهم اللاواعي قناعة بأنه على المجتمع أن يسدد لهم فواتير ما قضوه من سنوات حياتهم داخل السجون والمعتقلات.
تلك القناعات الزائفة تولدت من قصص وروايات أسطورية خضع لسياقها الخيالي اتباع الجماعة الإسلامية وتنظيمات الجهاد في مصر في تسعينات القرن الماضي، فضلاً عن جماعة “الإخوان المسلمين” التي أرست معانيها، ووظفتها لاحقاً مختلف الجماعات الراديكالية المتطرفة، وتقوم على عقيدة الاستعلاء والاصطفاء السماوي، لتغيير مجتمعات واقعة بين الانحلال والكفر، تخلت عنهم في ساحات المواجهة مع النظم السياسية الحاكمة، وأنهم ضحايا القضايا السامية والأهداف النبيلة، ومن ثم توطن داخلهم العداء المجتمعي مهما كانت إجراءات “التوبة”، ومساعي الاندماج التي نفذتها المؤسسات الأمنية.
في النهاية، يمكن القول إن إشكالية المجتمع والدولة والتنظيمات المتطرفة تظل في دائرة مفرغة، ولن تحقق برامج “التوبة”، نتائجها المرجوة، في ظل اقتصارها على عملية الانفكاك والانفصال عن الأطروحات الفكرية والتنظيمية، وعدم اقترابها في شكل حقيقي من الأسباب والدوافع النفسية للتطرف، وشرعنة العنف والقتل.