احتمالات تنفيذ تركيا لـ عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي عزم بلاده تنفيذ عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا من أجل إتمام الأعمال التي بدأتها أنقرة في سبيل إنشاء المناطق الآمنة حتى عمق ٣٠ كيلومترا على الحدود الجنوبية لتركيا مع سوريا، من أجل تعزيز حماية حدودها مع انتشار القوات الكردية، بالإضافة إلى رغبة أردوغان في إعادة ما يقارب مليون من اللاجئين السوريين الموجودين في بلاده،. الأمر الذي رفضته جميع التيارات السياسية السورية الكردية، والتي اعتبرت أي عمل عسكري تركي جديد “سيعقد الأزمة السورية أكثر”، ناهيك عن الرفض الدولي والإقليمي الذي عبرت عنه واشنطن وطهران على سبيل المثال.
يذكر أن القوات التركية بالتعاون مع الجيش الوطني السوري نفذت عدة عمليات عسكرية منذ عام ٢٠١٦، كان من بينها عمليات موسعة وأخرى محدودة، وأهمها “درع الفرات” و “غصن الزيتون” و”نبع السلام” في الشمال السوري، ضد تنظيمي الدولة الإسلامية ووحدات حماية الشعب الكردية، ونتج عن تلك العمليات السيطرة على آلاف الكيلومترات من الأراضي، وإتاحة الفرصة لآلاف اللاجئين السوريين للعودة إلى أراضيهم.
تأسيسا على ما سبق، يناقش هذا التحليل أسباب الإعلان عن عملية عسكرية جديدة لتركيا في الشمال السوري في هذا التوقيت، وما إذا كانت هذه العملية ستتم ويكتب لها النجاح بالفعل أم لا، في ظل الرفض الدولي والإقليمي لها.
فرصة التوقيت:
لا تزال أنقرة تحاول بشتى الطرق الاستفادة من الأزمة الأوكرانية على كافة الأصعدة، داخليا وخارجيا، وجاءت آخر محاولاتها تلك بإعلانها عن عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري، من أجل إنشاء مناطق آمنة لتفادي تهديدات التنظيمات التي تعتبرها أنقرة إرهابية من ناحية، ومحاولة إعادة اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا من ناحية أخرى. وذلك في توقيت متجهة فيه أنظار العالم صوب الحرب المستمرة في أوكرانيا، مستغلة انشغال روسيا نفسها في حربها مع أوكرانيا، وانشغال الغرب بمجريات الحرب، وتقديره _ الغرب _ في نفس الوقت لجهود أنقرة حيال الأزمة الأوكرانية، وهو ما قد يجعل الأطراف الدولية الأهم تغض الطرف عن العملية الجديدة التي تنوي تركيا تنفيذها في شمال سوريا.
كما يستغل أردوغان رغبة أعضاء الناتو، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، في توسيع الحلف بضم فنلندا والسويد، بعد أن تقدمت كلتا الدولتين رسميا بطلب للانضمام إلى حلف الناتو، الأمر الذي قوبل برفض تركي صارم، بسبب إيواء ودعم هذه الدول إلى حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا لدى أنقرة. وبالتالي قد تستغل الأخيرة رغبة الناتو في توسيع مساحته وأعضاءه واسترضائها من أجل رفع الفيتو عن انضمام السويد وفنلندا للحلف في السماح لها بتنفيذ عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري.
ولكن رغم ترجيح البعض لاحتمالية أن تكون العملية العسكرية الجديدة ثمنا لموافقة تركيا على توسيع الحلف، إلا أنه من جانبنا نرى أنها بداية لمطالبات تركية أخرى من واشنطن والاتحاد الأوروبي، وكحد أدني؛ ستضغط أنقرة على ستوكهولم وهلسنكي من أجل التخلي عن دعم المنظمات التي تصنفها أنقرة إرهابية، ويبدو أنها ستظل متمسكة بهذا الموقف نظرا لكونه سيصب في مصلحة أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة.
كما أن روسيا نفسها قد توافق على عملية عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا كتقدير لدور أنقرة المتزن باعتباره عضو في حلف الناتو خلال الحرب الأوكرانية، وحتى لا تغامر بخسارة حليف إقليمي مهم بالنسبة لها في حربها في مواجهة الدول الغربية، كما أن روسيا غير مستعدة في الوقت الراهن لفتح جبهة جديدة عليها أو مواجهة عسكرية مع تركيا حال رفضها للعملية، بالإضافة إلى أن موسكو قد تستغل العملية العسكرية للضغط على الأكراد من أجل التواصل مع النظام السوري. لذا، بالتأكيد ستكون العملية العسكرية الجديدة محل نقاش _ حال تم تأجيلها إلى ما بعد الزيارة _ خلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى أنقرة في الثامن من الشهر الجاري، وقد تطلب روسيا مقابل ذلك السماح للطائرات الروسية بالمرور عبر الأجواء التركية إلى سوريا، بعدما اتخذت أنقرة مؤخرا قرارا بحظر أجوائها أمام الطائرات الروسية القادمة من وإلى سوريا.
أضف إلى ذلك، أن الأيام الماضية كانت قد شهدت تحركات متزايدة للأرتال العسكرية والطائرات المسيرة والقصف المتبادل، خاصة بعد استهداف مخفر تركي داخل الأراضي التركية في منطقة قرقميش المحاذية لمدينة جرابلس وإصابة عدد من الجنود الأتراك.
تنفيذ أم إلغاء؟:
بعدما أعلن أردوغان في البداية عن استعداد بلاده لتنفذ عملية جديدة في سوريا بأيام، خرجت تصريحات من قادة في الجيش الوطني السوري، تقول إن “الجيش التركي قد أبلغهم بتأجيل العملية العسكرية إلى وقت لاحق، ولم يتم تحديده بعد”، كما أشاروا إلى أن التأجيل جاء مفاجئا لهم بعض الشئ بعدما تم تحديد وقت ومسار العملية من قبل، وبناءا على ذلك سادت حالة من الشك حول إمكانية إتمام العملية العسكرية أو إلغائها من الأساس، حتى ظهر وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو وشدد على ضرورة القضاء على كافة التهديدات الإرهابية على الحدود الجنوبية، الأمر نفسه أكده وزير الدفاع التركي خلوصي آكار بأن بلاده ” لن تقبل بوجود إرهابيين على حدودها الجنوبية “، انتهاءا أردوغان نفسه الذي أكد عزم بلاده إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، ووصفها بـ ” الحزام الأمني “، كما اعتبر أن بلاده ” لن تطلب إذنا من أحد من أجل التحرك “، وعليه قد تسفر الأيام القادمة عن أحد السيناريوهين، هما:
(*) السيناريو الأول؛ إلغاء العملية العسكرية: وقد يجد هذا السيناريو مرده بناءا على الرفض الإقليمي والدولي لهذا العملية منذ أن أشار إليها المسئولون الأتراك، خاصة من جانب الولايات المتحدة، والتي لازالت حتى تاريخه تؤكد رفضها لهذه العملية، نظرا لأن عملية عسكرية جديدة تقوم بها تركيا في الشمال السوري قد تهدد القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة، كما قد تعرقل الجهود الغربية في مواجهة تنظيم داعش، وفقا للرؤية الأمريكية، وفي ظل إدارة الديمقراطيين المتشددة نوعا ما مقارنة بالجمهوريين. هذا فضلا عن الموقف الروسي الذي يبدو ملتبسا حتى الآن، إذا لم يتم الإعلان عن أي موقف رسمي حتى هذا التوقيت حيال العملية العسكرية التركية المرتقبة، وهو ما قد يفسره وصف مسئولي الجيش الوطني السوري للتراجع التركي بـ ” المفاجئ “.
(*) السيناريو الثاني؛ تنفيذ العملية العسكرية: وهذا بالنظر إلى تأكيدات المسئولين الأتراك المتكررة على التنفيذ، والتي تراوحت بين التأكيدات الإعلامية والإعلان عن المباحثات مع البيت الأبيض والكرملين في هذا الشأن، وكان آخرها الاتصال الهاتفي الذي جمع بوتين وأردوغان، وأكد من خلاله الأخير إصراره على إنشاء المنطقة الآمنة، وأيضا توقيت الإعلان عن العملية في وقت تساوم فيه أنقرة الغرب بشتى الطرق للحصول على تنازلات غربية في عدة ملفات، كالعقوبات الاقتصادية والعسكرية، وتسليم المطلوبين في فنلندا والسويد، وإلغاء حظر مبيعات الأسلحة الذي تفرضه السويد على تركيا، كما يأتي على رأس المطالبات التركية، أخذ التهديدات الأمنية لها في عين الاعتبار، وذلك من خلال وقف الدعم الذي تقدمه الدول الإسكندنافية _ السويد وفنلندا _ للتنظيمات الإرهابية، والسماح لها بتنفيذ عملية عسكرية جديدة تنشئ من خلالها منطقة آمنة على عمق ٣٠ كم، وبهذا سيكون أردوغان قطع شوطا كبيرا في هذا الملف قبيل الانتخابات، هذا فضلا عن إعلان فصائل المعارضة السورية دعمها للعملية العسكرية وعزمها الاشتراك فيها.
ولكن رغم ذلك، ورغم الحديث عن إنهاء الاستعدادات للتنفيذ، إلا أنه قد يتم تأجيل مؤقت للعملية الجديدة حتى زيارة وزير الخارجية الروسي إلى أنقرة في ٨ يونيو الجاري، ولكن يُحتمل تأجيل فقط، لأن تزامن زيارة لافروف مع الإعلان عن عملية عسكرية جديدة، قد يشير إلى موافقة ضمنية من جانب موسكو من أجل التنفيذ، خاصة بعد التصريح اللافت لوزير الخارجية الروسي، الذي قال فيه إن “تركيا لا يمكنها أن تقف جانبا حيال ما يجري من تطورات في سوريا “، الأمر الذي اعتبره مسئولون أتراك تفهما من الجانب الروسي للموقف التركي. وقد رجحت العديد من التحليلات أن يتم الانتهاء من العملية العسكرية قبل قمة الناتو المقبلة في ٢٩ يونيو في مدريد.
وفي الختام، قد يكون عدم الحصول على الضوء الأخضر من جانب الولايات المتحدة وروسيا أو إحداهما فقط، دفع الجانب التركي إلي التريث فقط قبل البدء في تنفيذ عملية عسكرية جديدة، لأن احتمال الإلغاء النهائي يبدو بعيدا بعض الشئ في ظل المعطيات الراهنة، وفي هذا التوقيت، باعتباره فرصة للقيام بحملة موسعة ضد حزب العمال الكردستاني مستندة إلى دورها في الحرب الأوكرانية والانشغال العالمي بتداعيات تلك الحرب، وبالتالي بالرغم من الرفض الغربي وعدم وضوح الموقف الروسي صراحة، إلا أن أردوغان قد يبادر بتنفيذ العملية مستندا إلى حاجه كلا المعسكرين له في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا، رغم أن احتمال الرفض الروسي على الأقل مستبعدا حتى الآن بعد الإعلان عن زيارة لافروف إلى أنقرة.